
الفاشر.. المدينة التي كشفت نوايا الحرب
عمرو خان
*لم تكن الفاشر مجرّد مدينة سقطت عسكريًا، بل كانت آخر قلاع الذاكرة السودانية في دارفور، مدينة تحمل في حجارتها تاريخ الممالك القديمة، وفي أزقتها روايات الصمود الشعبي ضد كل أشكال القهر. حين انسحبت القوات المسلحة من الفاشر حفاظًا على أرواح المدنيين، بدا المشهد كأنه لحظة فارقة في مسار الحرب، إذ لم تعد المعارك تُقاس بمساحات الأرض التي تُحتل، بل بعمق المأساة الإنسانية التي تخلّفها خلفها.
*إنّ السؤال الحقيقي ليس: من انتصر؟ بل: ماذا يريد الدعم السريع من السودان؟
إذا كان الهدف بناء دولة، فكيف تُبنى على أنقاض الجثث والقرى المحروقة؟ وإذا كان الهدف سلامًا، فكيف يُرفع شعار السلام على أنغام الرصاص وصيحات المكلومين؟ ما يحدث في الفاشر ليس مجرد فصل من حربٍ أهلية؛ إنه اختبار قاسٍ لمدى قدرة الدولة السودانية على حماية تنوّعها وصون كرامة مواطنيها.
*الفاشر اليوم تمثل صورة مصغّرة للسودان الكبير: انقسام، خوف، نزوح، وصمت دولي يشرعن استمرار المأساة. ومن المفارقات المؤلمة أن المدنيين أصبحوا الحلقة الأضعف في دوامة الصراع، يدفعون ثمن التنافس على السلطة، وثمن الاختلاف في الرؤى والهويات. إنها مأساة إنسانية تتجاوز حدود السياسة والعسكرية إلى عمق الإنسان، إذ لم يعد القتل مرتبطًا بجبهة قتال، بل بهوية الضحية.
*ولعلّ أخطر ما في المشهد أن الدعم السريع – بتكوينه الاجتماعي المعقد – يسعى لفرض رؤية أحادية لوطن متعدّد، محاولًا اختزال السودان في هوية واحدة تُقصي الآخرين. وهذا في جوهره مشروع استبدادي لا يقل خطورة عن أي غزو خارجي، لأنه يحاول إعادة رسم الخريطة الديموغرافية بالقوة، وتفكيك النسيج الذي ظلّ، رغم هشاشته، سرّ بقاء السودان حيًا.
*إنّ سقوط الفاشر لا يعني نهاية الحرب، بل يمثل تحوّلًا جديدًا في مسارها، يفرض على جميع الأطراف مراجعة مواقفهم وفهم طبيعة التحديات التي تواجه الدولة والمجتمع معًا. فحين تتحول المدن إلى رموز للصراع، يصبح واجب الجميع – سياسيين ومسلحين ومدنيين – أن يبحثوا عن طريقٍ آخر نحو الاستقرار.
*السودان اليوم يقف على مفترقٍ حادّ: إما أن يُستعاد الوطن بمشروع وطني جامع يتجاوز الأحقاد، أو يُترك نهبًا لميليشيات تتقاسم ما تبقّى من ترابه.
*ولذلك، فإن الفاشر ليست مجرد ساحة حرب، بل مرآة لما ينتظر السودان إن لم ينهض أبناؤه جميعًا، بعيدًا عن الاصطفاف العرقي أو الجهوي، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فالقضية لم تعد مَن يملك السلاح، بل مَن يملك الضمير الكافي ليقول: كفى دمًا.
*كاتب صحفي مصري