حرب السودان تجرف الأطفال من المدارس إلى الشوارع
أجبرت الظروف الاقتصادية القاسية وخطر الجوع وتزايد معدلات الفقر مئات الأطفال الذين يقطنون في معسكرات الإيواء في مدن السودان الآمنة على الانتظام في مهن هامشية لمساعدة أسرهم وتوفير حاجات الغذاء والدواء، بخاصة بعد عدم صرف المرتبات لأكثر من 17 شهراً ونفاد المدخرات المالية.
ومع إطالة أمد الحرب والمصير المجهول على صعيد مستقبلهم الدراسي الذي بات في مهب الريح، اضطر آلاف الأطفال إلى العمل في الأسواق من خلال مهن هامشية مثل تلميع الأحذية “الورنيش” وغسل العربات وجمع النفايات وتجارة خردة الحديد، وكذلك بيع سلع حاجات صغيرة عند تقاطعات الطرق وإشارات المرور، كالمناديل والفاكهة والملابس لمصلحة بعض التجار بنظام النسبة المئوية للمبيعات، ويعمل آخرون حمالين عبر عربات صغيرة تدفع بعجلة أمامية واحدة تعرف محلياً بـ”الدرداقات”.
مسؤولية كبيرة
في سوق مدينة القضارف شرق الخرطوم يعمل الطفل بابكر سعد (11 سنة) في غسل السيارات من أجل توفير المال لإعالة أسرته التي تقيم في معسكر المنهل لإيواء النازحين.
يقول سعد، “لم يسبق لي العمل في هذه المهنة الهامشية، ولا في أية حرفة غيرها، فقد كنت طالباً مجتهداً في مدرستي بمدينة سنجة بولاية سنار، لكن بعدما سقط والدي ضحية في الاشتباكات المسلحة عقب سيطرة قوات (الدعم السريع) على المنطقة اضطررت إلى العمل لمساعدة والدتي وشقيقتي”. وأضاف، “أصبحت رجل البيت فجأة، ومطلوب مني كل يوم توفير مستلزمات الأسرة، إذ تعتمد أمي عليَّ في توفير الغذاء والدواء، وأحصل على 50 ألف جنيه سوداني في اليوم نحو (20 دولاراً)، لكنها ليست كافية في ظل ظروف الحرب، خصوصاً أننا نقيم في أحد معسكرات الإيواء”.
ويتابع سعد، “إنها مهمة صعبة ومسؤولية كبيرة حملتها مبكراً، لا سيما أن المهنة شاقة تفوق أحياناً قدرتي الجسدية، فضلاً عن الاستغلال من قبل أصحاب السيارات وسوء المعاملة”.
مهن شاقة
في مواقف المواصلات العامة بمدينة بورتسودان شرق السودان يعمل الطفل أيوب فضل (12 سنة) في تلميع الأحذية “الورنيش” خلال ساعات النهار وفي الفترات المسائية يبيع سلعاً صغيرة عن تقاطعات الطرقات وإشارات المرور مثل المناديل والحلويات والبسكويت وعلب السجائر.
يقول فضل، “فقدت أبي في حرب الخرطوم منذ أكثر من عام، وأجبرتنا ظروف الصراع المسلح على النزوح من العاصمة إلى ولاية البحر الأحمر والإقامة في معسكر إيواء، وبعد تفاقم الأوضاع ونفاد المدخرات المالية، اضررت إلى العمل لأن أسرتي ليس لها معيل غيري، ولا يوجد لنا مصدر دخل ثابت يمكننا العيش منه”.
وبين الطفل السوداني أنه “يحصل من عمله على 81 ألف جنيه سوداني نحو (30 دولاراً) في اليوم ويقوم بتوفير حاجات عائلته من مواد غذائية وأدوية وغيرها من المستلزمات اليومية، على رغم مشقة العمل خلال ساعات النهار والفترات المسائية”. ولفت إلى أن “هناك مئات الأطفال فقدوا ذويهم خلال الحرب واضطروا إلى العمل في مهن شاقة تفوق أحياناً قدرتهم الجسدية”.
ضياع المستقبل
تقول خديجة عز الدين، ربة منزل، إن “تدهور الأوضاع المعيشية لأسرتها نتيجة توقف مصدر دخلهم الوحيد المتمثل براتب زوجها لأكثر من 17 شهراً، وحاجتها لأدوية الأمراض المزمنة، أسباب أجبرت طفلها على العمل كحمال عبر عربة (الدرداقة) الشاقة لتوفير متطلبات الحياة اليومية”.
وتتحسر عز الدين على مستقبل طفلها الذي يضيع أمام عينيها بعدما غادر المدرسة دون رجعة، لا سيما بعدما أصبحت الأسرة تعتمد عليه بدرجة كبيرة في توفير كثير من مصروفات المنزل والدواء التي تتناوله والدته بصورة منتظمة طوال أيام الشهر”. وأوضحت أن “ابنها واحد من بين آلاف الأطفال الذين تقيم عائلاتهم في مراكز الإيواء بمدن البلاد الآمنة ويعانون ظروفاً قاسية وأوضاعاً إنسانية معقدة، بالتالي اضطروا إلى الانتظام في سوق العمل ومساعدة أسرهم في تأمين الغذاء والدواء”.
تشرد وضرر
وعلى صعيد متصل اعتبرت الباحثة الاجتماعية ابتسام محمد النعمان أن “ظروف الحرب والفقر دفعت آلاف الأطفال الذين يقيمون مع أسرهم في مراكز النزوح إلى الانتظام في مهن هامشية من أجل توفير حاجات عائلاتهم اليومية”. وأضافت أن “أطفال النزوح يعملون في ظروف بالغة القساوة وبمهن شاقة بالنسبة إلى أعمارهم، ويواجهون كل صور الاستغلال والضرر والأخطار الصحية”.
ونبهت النعمان إلى “الأخطار الجسدية والنفسية والأكاديمية نتيجة ترك الدراسة لفترة طويلة بسبب تطاول أمد الحرب، فضلاً عن إمكانية اكتساب الأطفال لصفات لا تليق بأعمارهم نظراً إلى عملهم في الشوارع لساعات متأخرة، وبعضهم قد يتعاطى المخدرات ويتعرض آخرون للتحرش الجنسي واللفظي”.
وأشارت الباحثة الاجتماعية إلى أن “تداعيات الصراع المسلح، بخاصة الفقر والبطالة هي سبب رئيس في تنامي ظاهرة عمالة الأطفال، إذ يعمل كثير منهم لمساعدة أسرهم، وينتهي الأمر بهؤلاء إلى التشرد والضياع”.
نصف السكان
ويقدر عدد سكان السودان بنحو 46 مليون نسمة يشكل الأطفال منهم نحو نصف عدد السكان، ويعاني 3 ملايين طفل سوء التغذية، فيما توقف 19 مليوناً عن ارتياد المدرسة، مما يهدد مستقبل السودان، إذ تقل أعمار 42 في المئة من السكان عن 14 سنة.
ووفقاً لتقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” فإن الصراع الدائر في السودان أدى إلى نزوح 3 ملايين ونصف المليون طفل، فضلاً عن أنهم باتوا بلا مأوى، وكثير منهم فقدوا أسرهم جراء الحرب التي خلفت أكبر أزمة للأطفال في العالم، مؤكدة أن الخطر لا يزال يحيط بنحو 24 مليون طفل سوداني بسبب الكارثة الإنسانية ذات الأبعاد الملحمية.