قراءة نقدية أسلوبية لقصيدة “مقاطع عراقية” للشاعر الدكتور/ الفاتح كامل

_________________________

_________________________

_________________________

_________________________

 

بقلم الدكتور /صلاح الدين ابوبكر هداد

 

الشاعر الفاتح كامل

أولًا: نبذة عن الشاعر د. الفاتح كامل
الدكتور الفاتح كامل هو شاعر سوداني معاصر، رئيس تحرير مجلة “النخبة الرائدة”، عُرف بكتاباته الشعرية النثرية التي تنحو منحى وجدانيًا عميقًا، ويعتمد في نصوصه على لغة مشبعة بالرمز، والهمّ القومي والوجداني، مع اهتمام بالغ بالموسيقى الداخلية للنص، والاشتغال على الذاكرة الثقافية والتاريخية. ينتمي نصّه إلى جيل من الشعراء الذين يرون الشعر بوصفه وسيلة انبعاث وصراع، وتصفية حسابات مع العالم والذات.
من مؤلفاته
-رواية الثلوج الغاربة
– رواية ابيض واسود
-ديوان شعر”جدارية عاشق اندلسي
-مجموعة قصصية .”الخيول”
وغيرها الكثير من المنجزات الإبداعية والحضور الثقافي المميز
ثانيًا: إعادة كتابة النص مشكولًا
مقاطع عِراقيّة
شعر: د. الفاتِح كامِل
(١)
ماذا تَرى؟
تَهِبِينَنِي بَحْرَ العِشْقِ الأزَلِيِّ؟
أفْتَحُ نافِذَتِي
عَلَّ النَّهْرَ المَحْزُونَ يَنفُذُ مِنْهَا
يُخَلْخِلُ هذِهِ الرُّوحَ العَطْشَى
يُرْشِدُهَا رَجْمًا بِالغَيْبِ
أمْ أَظَلُّ يَا بَغْدَادُ رُوحِي
أبْحَثُ عَنْكِ فِي ذَاتِي
بُعْدًا مُسْتَحِيلَ المَرَاقِي
أُفَتِّشُ فِي ذَاتِكِ الحُبْلَى
بِالألَمِ الرَّهِيبِ
عَنْ مَعالِمِكِ
عالِيَةِ المَعَانِي وَالطُّمُوحِ
(٢)
يَا شُعْلَةَ التَّارِيخِ
وَالمَجْدِ التَّلِيدِ
بَغْدَادُ، يَا رُوحِي
وَيَا قَلْبَ الرَّشِيدِ
(٣)
مَا تَعَوَّدْتُ قَبْلَ هذَا اليَوْمِ
أَنْ أَمُدَّ أَصابِعِي صَوْبَ الرِّيحِ
تِجَاهَ لَمْلَمَةِ الأشْيَاءِ المُبَعْثَرَة
أوْ أَنْ أَخْتَرِقَ حُجُبَ الصَّمْتِ المُطْبَقِ
أَخْتَرِقَ المَجْهُولَ
فَانْفُخِي يَا بَغْدَادُ
فِي رُوحِكِ
رُوحَ العِشْقِ اللَّاانْهِزَامِيَّةِ
(٤)
إلَيْكِ أَعُودُ يَا وَاحِدَةٌ
بَعْدَ أَنْ طَالَتْ أَيَادِيهِمْ
رَفَدَ أَقْدَارِي العَابِثَةَ
أَبْحَثُ عَنْكِ
عَنْ مَدِينَتِي
سِنْدِيَانَةِ الدَّهْشَةِ
الارْتِبَاكِ
الإغْمَاضِ المُنْفَعِلِ
تِلْكَ الأشْيَاءِ المُثِيرَةِ
المُرْتَجَلَةِ
(٥)
لِأَجْلِ عَيْنَيْكِ أُغَنِّي
يَا أَحْلَى الكَلَامِ
لِأَجْلِ عَذْبِ الكَلَامِ
المُعَلَّقِ فِي الصَّمْتِ الكَثِيفِ
المُوغِلِ فِي الوَحْشَةِ
أُغَنِّي
لِأَجْلِكِ، يَا مَنْ تَرْكُضِينَ
عَكْسَ الرِّيحِ
المَدَارَاتِ القَاسِيَةِ
الكُهُوفِ المُظْلِمَةِ وَالانْحِنَاءَاتِ
أَعُودُ حَامِلًا جُرْحَكِ
جُرْحِي
عُمْقَ المَأْسَاةِ
تَرَانِيمِي البَائِسَةَ
طُقُوسِي الاسْتِوَائِيَّةَ الحَزِينَةَ
المُشْمِسَةَ بِوَهَجِ الطُّبُولِ النَّافِرَةِ
القَلَقِ
وَالانْتِظَارِ.
****
ثالثًا: القراءة النقدية الأسلوبية
مقدمة..
المنهج الأسلوبي هو منهج نقدي يهتم بدراسة اللغة والتعبير الفني في النصوص الأدبية، من خلال تحليل الأساليب البلاغية واللغوية مثل التكرار، الانزياح، والصور، للكشف عن جماليات النص وأثره في المتلقي، مع التركيز على النص نفسه دون المؤلف.
١. الشكل والبنية:
القصيدة تنتمي إلى شعر التفعيلة أو الشعر الحر، لكنها أقرب من حيث النَّفَس والمشهدية إلى قصيدة النثر. يتعمد الشاعر تقطيع الجمل إلى وحدات نفسية وشعورية قصيرة، ما يُولِّد إيقاعًا داخليًا نابضًا بالحيرة والانكسار والتوق.
٢. اللغة والصور:
يستخدم د.الفاتح كامل لغة ذات كثافة وجدانية عالية. المفردات المهيمنة: (العشق، الألم، المجد، الريح، الوحشة، الصمت، القلق)، وهي مفردات ذات طابع وجداني وجودي.
الصور الشعرية تبتعد عن التشبيه المباشر، وتقترب من الاستعارات المركّبة:
“سنديانة الدهشة”: استعارة للمكان المتجذر العصيّ على الاقتلاع.
“أغني لأجل عذب الكلام المعلق في الصمت الكثيف”: صورة مزدوجة تعكس تمزق الذات بين البوح والكتمان.
٣. الرمزية والمقاربة النفسية:
القصيدة تسير على خط رفيع بين البعد القومي (بغداد كرمز للعروبة والانبعاث) والبعد الشخصي (بغداد كامرأة، كحبيبة، كذات أخرى). يظهر فيها شعور المنفى الداخلي والبحث عن الهوية المفقودة، وهو ما يتجلى في عبارة مثل “أبحث عنكِ… عن مدينتي…”.
٤. توتر الثنائيات:
النص مليء ومفعم بثنائيات متقابلة تشكل جوهر التوتر الشعري:
العشق ضد الألم
المجد ضد الانكسار
الضوء (العين، الشمس، الطبول) ضد الظلمة (الكهوف، الوحشة)
الذات ضد الآخر (المدينة/الحبيبة)
٥. نبرة الخطاب:
القصيدة تُوجَّه إلى “بغداد” بصيغة المخاطب المؤنث، وهو خطاب عاطفي، توسلّي، استرجاعي، لكنه يتدرج نحو التحريض والتطلع والانبعاث. إنها ليست بكائية، بل نصّ مشبع بالإرادة رغم الجراح.
“مقاطع عراقية” قصيدة تنهض على المفارقة بين الحب والانكسار، بين الذات والمدينة، بين التاريخ والجراح. استطاع د. الفاتح كامل أن يجعل من بغداد مرآة تعكس مأساته الذاتية ومأساة الأمة، مستفيدًا من الشعر بوصفه أداة حفرٍ في الذاكرة، وسلاحًا في مقاومة النسيان.