(أصداء سودانية) تكشف جرائم مليشيا الدعم السريع المتمردة بسنجة.. (3 ـ 3)
- مجاعة طاحنة تجتاح سنجة وقراها
- الملاريا تفتك بالمواطنين في ظل إنعدام تام للعلاجات
- رسوم مغادرة من الدعم السريع للمواطنين المغادرين ولاية سنار
سنجة ـ التاج عثمان:
من خلال الحلقتين الأولى والثانية عكسنا ما تعرض له سكان مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار ومدنها وقراها من صنوف القهر والتعذيب والتنكيل ونهب منازلهم وسياراتهم بجانب تجفيف السوقين الكبير والشعبي والصيدليات والمستشفيات من البضائع والأدوية ونقلها بالدفارات لخارج المدينة جهة ودمدني وبعض الولايات الغربية .. ومن خلال هذه الحلقة الثالثة والأخيرة نكشف كيف أجبرت المليشيات سكان مدينة سنجة البقاء داخل المدينة قسرا وعدم مغادرتها إلا بعد دفع رسوم مغادرة (أتاوه) مبلغ (100) ألف جنيه لكل مواطن .. كما نورد بالتفصيل رحلة الأهوال من سنجة إلى الحواتة
ملاريا وسكري:
من المشاهد المؤلمة التي وقفت عليها قبل مغادرتي سنجة مشهد المواطنين الذين فتكت بهم الملاريا في ظل عدم وجود علاجها من حبوب وحقن وبعضهم لجأ لشرب منقوع شجر النيم وثمار شجر القرض المخلوط بالعرديب وللأسف حصدت الملاريا أرواح أعداد كبيرة منهم، ولاحظت أنها إنتشرت أيضا وسط أفراد المليشيا المتمردة وحصدهم حصدا.. بجانب مرضى الملاريا هناك معاناة قاسية أخرى لمرضى السكري والضغط لإنعدام الأدوية المنقذة للحياة الخاصة بهم ومعظمهم من كبار السن .. أحد الحالات التي كنت شاهد عيان عليها بالحي الشمالي المتاخم لسوق سنجة الكبير حالة المريض (صالح النصري) وهو من مواطني مدينة سنجة مصاب بالسكري، بسبب الجوع وعدم توفر الطعام انخفض معدل السكر في دمه إلى (15) فقط ودخل في غيبوبة.. فاستعنا بطبيب شاب حديث التخرج نقلناه له من المنزل بواسطة كارو ـ طبعا لا إسعاف ولا سيارات ولا ركشات حيث إن كل آله تعمل بالبنزين تعرضت للنهب بواسطة مليشيا الدعم السريع المتمردة ـ فقرر له محلول سكر بسرعة وإلا سوف يفقد حياته، وبعد بحث ومجهود من البعض عثرنا على درب واحد ملقى على الأرض بأحد المراكز الصحية التي تعرضت للنهب من المليشيا، وتم تجهيز حامل للدرب عبارة عن عود شجرة نصبناه على الكارو لكن لم نجد (الفراشة) فتصرف الطبيب الشاب بسرعة وأخذ يسحب كمية من محلول السكر ويعطيه له عبر الوريد بحقنة وبعد حقنتين تحسنت حالته وتم ترحيله عبر الكارو لعيادة مسجد البرهانية وتم إسعافه بدرب محلول السكر ليتعافى وعاد لمنزله على رجليه.
رسوم مغادرة:
من القرارات الغريبة التي فرضتها مليشيا الدعم السريع المتمردة على من تبقى من السكان داخل مدينة سنجة فرضها رسوم مغادرة او بعبارة أصح (أتاوة) مبلغ (100) ألف جنيه لكل مواطن يقرر مغادرة المدينة، فإذا كانت هناك أسرة مكونة من (5) أفراد عليها دفع (500) ألف جنيه حتى تغادر المدينة، علما أن الأسر التي ظلت مقيمة بسنجة لم تخرج منها بسبب عدم قدرتها المالية على ذلك أي أنهم لا يملكون ولا جنيها واحدا.. وكنت من المحظوظين لخروجي من سنجة قبل سريان القرار بيوم واحد فقط في رحلة يمكن ان نطلق عليها (رحلة الأهوال)!.
رحلة الأهوال:
قبل تفاصيل رحلة الأهوال أشير إلى أن مدينة سنجة كانت مغلقة تماما وسكانها محاصرون داخلها لإنقطاع كل الطرق الترابية التي تربطها بمدينتي الحواتة والقضارف بسبب الأمطار الغزيرة غير المسبوقة والتي أحالت الطرق حولها إلى طين ووحل، ظللت ومعي بعض الأشخاص نحاول الخروج من المدينة بعد أن عصف بنا الجوع وفتكت بنا الملاريا وفي كل مرة لا نجد سبيلا لذلك فالأمطار تهطل يوميا وتغلف الطرق البرية تماما، أخيرا أنتهزنا فرصة توقف الأمطار واتفقنا مع سائق جرار زراعي لإخراجنا من المدينة المهجورة او بعبارة أدق من الجحيم الذي كنا نعاني منه هناك، فطلب منا مبلغ (مليون و200) ألف جنيه ـ مليار و 200 جنيه ألف بالقديم ـ بمعدل (65) الف جنيه للفرد الواحد.. كنا نشكل مجموعة غير متجانسة من سكان المدينة، شباب ورجال وأطفال ونساء وفتيات ومرضى ومسنين وكان عددنا نحو (20)، انحشرنا جميعنا داخل (ترلا) صغيرة متهالكة وقطعنا جسر سنجة إلى الطريق البري المتجه لمدينة الدندر وبعد مسافة قصيرة نزل الجرار المتهالك لطريق مغطى تماما بمياه الأمطار والطين والوحل ولا تستطيع أي عربة أخرى اجتيازه سوى الجرار، (التراكتر)، ومن هنا بدأت رحلة الأهوال.
وجهتنا كانت قرية (ود النور) حيث تحركنا من سنجة حوالي التاسعة صباحا وصلنا القرية المذكورة السادسة مساء أي ان الرحلة بالجرار الزراعي استغرقت زهاء (8) ساعات بينما يفترض في الأحوال العادية قطع نفس المسافة في ساعتين فقط.. قضينا ليلتنا بقرية ود النور، والتي أكرمنا أهلها غاية الكرم، وعندما تأهبنا صباحا لمغادرتها هطلت أمطار غزيرة منذ الصباح الباكر ولم تتوقف إلا بعد الظهر ولذلك قضينا ليلة أخرى بقرية ود النور لنغادرها في الصباح الباكر راجلين ناحية نهر الدندر وسط الطين والوحل ومعاناة ما بعدها معاناة خاصة النساء والأطفال وكبار السن، وكان معنا أحد المرضى من أسرة مشهورة بسنجة برفقة إبنه الشاب محمولا على مرتبة في حالة حرجة من المرض والأعياء.. وبعد مسيرة على الأرجل لاح لنا نهر الدندر وكان وقتها ممتلئا بالمياه لآخره لدرجة ان البعض قرر عدم إجتيازه .. في النهاية إجتزنا النهر الهادر عبر ثلاثة مراكب صغيرة للشاطئ الشرقي، ومن هناك استغلينا جرار آخر و(تريلا) بمبلغ (30) ألف جنيه للراكب الواحد، وبدأنا رحلة ثانية وسط الطين والوحل ومياه الأمطار تغطي كل الطريق، لدرجة أن الجرار الزراعي تعرض للوحل هو الآخر بعد أن غاصت إطاريه الخلفيين الكبيرين في الوحل واختفتا تماما! .. ظللنا على تلك الحالة الخطرة حيث كنا نتوقع إنقلاب الترلا في أية لحظة بسبب المجاري العميقة في الطريق، قضينا وسط تلك الأهوال حوالى (12) ساعة كاملة وصلنا بعدها لمدينة الحواتة ولاية القضارف وبتنا فيها ليلتنا أرضا على الطين بسبب الأمطار الغزيرة التي هطلت عليها صباح نفس اليوم.. ويا لحظنا العاثر حيث كان يفترض أن نستغل من مدينة الحواتة بص سياحي للقضارف عبر الردمية المشيدة حديثا لكن علمنا أن نحو (5) كيلو من الطريق تعرض للانجراف بالسيل ويتعذر حتى على الجرارات إجتيازه إلا بعد يومين في حالة عدم هطول أمطار، لكننا أصرينا على المغادرة فزاد سائق الجرار من أجرته لخمسين ألف جنيه للراكب الواحد بدلا من (30) ألف، وتوكلنا على الله وتحركنا وسط طريق مائي طيني لم أشهد له مثيلا، وكنا نشاهد عدد من البصات السياحية السفرية والبكاسي متوقفة وسط المياه بعد أن إختفت إطاراتها نهائيا داخل الطين ويبدو أن السيل الجارف فاجأها في الطريق.. والحمدلله بعد معاناة وصلنا لطريق (الحواته ـ القضارف) بأمان ومن هناك إستغلينا هايس للقضارف.. وأشير أنني لم أنجح في توثيق رحلة الأهوال لأن كاميرتي تعرضت للنهب بواسطة بعض أفراد الجنجويد، وحاولت العثور على موبايل من ما كانوا برفقتي في الرحلة فوجدت عددا منها لكنها للأسف لم تكن مشحونة بسبب إنقطاع الكهرباء بسنجة.
أخيرا هذه المعاناة والتي تسببت فيها مليشيا الدعم السريع المتمردة لم تقتصر على مجموعتنا فقط بل سبقنا إليها عشرات المواطنين الذين خرجوا من سنجة بعد ان تحولت لمدينة مهجورة، بلا طعام ولا علاج ولا مياه ولا كهرباء ولا إتصالات ولا أي مقومات حياة، وتعرض منازل سكانها وممتلكاتهم وسياراتهم للنهب الممنهج المقصود، تلاحقهم لعنات كل أهل سنجة وقراها!.. والمؤسف ان المئات من سكان مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار لا يزالون عالقين داخل المدينة المهجورة يعانون معاناة قاسية من الجوع وتعصف بهم الملاريا وفي نفس الوقت لا يستطيعون مغادرة المدينة المهجورة لعدم مقدرتهم سداد (رسوم المغادرة) التي فرضها عليه الجنجويد.