(أصداء سودانية) تكشف تفاصيل الهروب الجماعي للمواطنين من توتي (2 ــ 2)

  • رحلة الأهوال .. من توتي إلى شندي
  • المواطنون عبروا كبري توتي للخرطوم زحفا على بطونهم
  • سوق للسلاح والخمور والمخدرات والمنهوبات بالحاج يوسف
  • حركة تهريب كثيفة للوقود عبر سهل البطانة إلى داخل العاصمة

تحقيق: التاج عثمان
من خلال الحلقة الأولى كشفنا طبيعة المعاملة الوحشية للمليشيا لمواطني توتي الذين ظلوا محبوسين داخل الجزيرة منذ قرابة السنتين لا يغادرونها إلا بعد دفع أتاوات مليارية .. واوضحنا كيف قرر سكان الجزيرة مغادرتها خوفا على حياتهم من بطش وتنكيل الجنجويد .. ومن خلال هذه الحلقة الثانية والأخيرة نكشف كيف تسلل المواطنين من الجزيرة ليلا حيث قضوا ليلتهم بميدان المريخ بالديم ومنها إلى شندي عبر سهول البطانة .. فلنتابع تكملة رحلة الهروب الجريئة والمحفوفة بالمخاطر على لسان أحد الناجين من حصار الجنجويد.
الخروج من توتي:
تجمعنا كعائلات داخل مسجد توتي الكبير ولم نأبه لبيان قادة الجنجويد الذي اطلقوه من داخل مسجد توتي الكبير وطلبوا منا عدم الخروج من منازلنا مقابل ان يوفروا لنا المواد الغذائية، لكننا لم نصدقهم بل قررنا الخروج من الجزيرة حتى ولو كلفنا ذلك حياتنا .. بعدها تجمعنا عائلات كثيرة في منزل واحد كبير، وكنا في حيرة من أمرنا كيف سنخرج من الجزيرة المحاصرة بالمليشيا من كل الإتجهات, وساق لنا القدر طبيبة تعمل بمستوصف توتي متعاونة مع الدعامة وكانت تعالج مرضاهم، إلا أنها غادرت الجزيرة لأحد أحياء الثورة بامدرمان تاركة والديها داخل توتي .. فإتصلت بأحد قادة المليشيا وطلبت منه إخراج والديها وعدد من أفراد اسرتها من توتي إلى منطقة الحاج يوسف ببحري مقابل مبلغ كبير من المال .. وتم إحضار العربة التابعة للجنجويد لنقل أسرة الطبيبة، ولما كانت العربة البوكس غير ممتلئة إنتهزت الفرصة وصعدت إليها وكأنني واحدا من أسرة الطبيبة.. اما من لديه مبلغ من المال فقد لجأ لقائد ثاني بالمليشيا أصبح يعمل كسمسار لتهريب المواطنين الراغبين في مغادرة الجزيرة المحاصرة والذين لديهم المبلغ الذي يطلبه الدور الواحد بمبلغ مليون ونصف جنيه تقسم على عدد المواطنين، وقام قائد ثاني المليشيا الذي تحول إلى سمسار لتهريب البشر بعمل خمسة أدوار لتهريب المواطنين من الجزيرة بمعنى أنه تقاضى في الرحلات الخمس مبلغ سبعة مليون ونصف جنيه
كما ذكرت تسللت خلسة داخل العربة التي إستأجرتها الطبيبة لإخراج والديها وعدد من أفراد أسرتها من الجزيرة، وتحركنا من المنزل الذي تجمعنا داخله، يرافقنا أحد الجنجويد يقود دراجة بخارية ومعه آخرين مسلحين حتى نستطيع إجتياز إرتكازات المليشيا الكثيرة ببعض طرق الخرطوم، والذين طلبوا منا الإنصياع لتعليماتنهم أثناء المغادرة .. وتحركت بنا العربة البوكس من توتي ليلا وكان مطفأة الأنوار، وعند وصولنا مدخل كبري توتي قام مرافقنا من المليشيا بإنزال الرجال من البوكس وترك فقط النساء والأطفال .. وتحرك البوكس بحذر داخل الكبري وكانت توتي وقتها خالية تماما من أي شيء يتحرك، ومررنا بإرتكازات المليشيا التي دمرتها مسيرات الجيش.. وبعد إنزالنا طلبوا من الرجال إجتياز كبري توتي (حبو) عبر ممر المشاة داخل الكبرى بحجة عدم تعرضنا لمسيرات الجيش حسب قوله .. كانت عملية شاقة حيث كان معنا مسنين ومرضى لم يستطيعوا الحبو كما أمرنا مرافقنا الجنجويدي فأخذوا يزحفون على بطونهم حتى تسلخت أياديهم.
ميدان المريخ:
أخيرا عبرنا الكبرى جهة الخرطوم فطلب منا مرافقنا الصعود للبوكس ثم إنطلق ببطء وحذر عبر شارع الجامعة ناحية رئاسة شرطة المرور ثم مررنا بجامع فاروق ومنه دخلنا السوق العربي عبر شارع الحرية.. وكانت الشوارع التي مررنا بها خالية ومهجورة وكأنها مدينة أشباح تماما، لم نشاهد فيها أحد من الدعامة اوالجيش او المواطنين، لم نشاهد شيء يتحرك سوى كديس كان لحظتها يقطع شارع الحرية! .. بعدها وصلنا كبري الحرية وكنا في حالة رعب خوفا من قناصي المليشيا حيث أن الجيش ضربهم قبل يوم من خروجنا ببرج الفاتح وجامعة النيلين وكانوا يتمركزون هناك.. وبعد أن إجتزنا كبري الحرية شاهدنا من على البعد إرتكازا للمليشيا لكن السائق تفاداهم ودخل للديم عبر طريق جانبي حتى وصلنا إلى ميدان المريخ وطلبوا منا النزول من البوكس لقضاء ليلتنا في الميدان على الأرض.
حكومة الحاج يوسف:
وفي الصباح الباكر توجهنا بالبوكس شرقا ومررنا بالسوق المركزي الخرطوم وكانت هناك حركة قليلة لبعض المواطنين والدعامة الموزعين هنا وهناك، بعدها سلكنا شارع الستين وعند مدخل كبري المنشية جهة الخرطوم صادفنا إرتكاز للمليشيا وطلبوا منا النزول للتفتيش إلا أن مرافقنا الدعامي توجه لقائد الإرتكاز وقاده بعيدا منا وشاهدناه يقدم له بعض المال فأذن لنا بالمرور.. بعدها وصلنا الحاج يوسف وشاهدنا مجموعة من البشر خليط من الدعامة وعصابات تسعة طويلة وأناس ذو سحنات غير سودانية، وتأكيدا على ذلك قال لنا مرافقنا الدعامي:”لولا أننا نرافقكم لقفز أفراد عصابات تسعة طويلة للبوكس ونهبوكم”.. لاحظنا ان كل عمارات الحاج يوسف مليئة بالدعامة بأسرهم وأقاموا لهم نشاط تجاري أسفل إحدي هياكل العمارات غير المكتملة، سوق كبير عامر بكل ما يخطر على بالك يطلقون عليه (سوق السلاح) يتواجد به آلاف الدعامة باعة ومشترين، يعرض أنواعا مختلفة من الأسلحة رشاشات مسدسات وطبنجات، بجانب البنزين والخمور البلدية والمستوردة بيرة وويسكي والبنقو والحبوب المخدرة والآيس، وستات الشاي ومحال بيع ساندوتشات الفول والطعمية والشاورمه والأقاشي.. وكما علمنا من مرافقنا الدعامي ان الدعامة تزوجوا بالحاج يوسف واقاموا معهم علاقات أسرية وإجتماعية وتجارية.. حتى وصلنا موقف الحاج يوسف فوجدناه يمتلئ لآخره بالدعامة يحملون أسلحتهم على أكتافهم، ومنهم أفراد أصبحوا شرطة مرور يقومون بتنظيم حركة المرور في الموقف، علمنا أنهم اقاموا لهم حكومة بالحاج يوسف أطلقوا عليها (حكومة الحاج يوسف).
الوصول إلى شندي:
تحركنا من موقف الحاج يوسف حوالى الساعة العاشرة صباحا بحافلة في طريقنا لشندي حيث تخلي عنا مرافقينا الدعامة وعادوا لتوتي .. وفي الطريق لاحظنا وجود إرتكازات كثيرة للدعامة كل إرتكاز به نحو عشرة دعامة مدججين بالسلاح يقومون بإنزال العفش ويحققون مع الركاب خاصة الشباب بصورة غير لائقة وإستفزاز:”أفتح كتفك ده نشوفو.. إنت عسكري .. وإنت فلول”، وفي النهاية يسمحون لنا بالمرور بعد ان نقدم لهم الأتاوة التي يطلبونها .. بعدها دخلنا سهل البطانة ولاحظنا عربات كثيرة محملة بالوقود المهرب في طريقه للحاج يوسف حيث ذكر لنا سائق الحافلة أن المهربين من المواطنين يبيعونه للدعامة في سوق الحاج يوسف، وهو في إعتقادي أمر مؤسف ويدل أن هناك أناس مستفيدين من الحرب ولا يريدون إنهائها لأنهم يكسبون من ورائها الكثير من الأموال، اما مصدر الوقود فلم نعرف من أين يجلبونه بهذه الكميات الكبيرة، الله أعلم.
صادفتنا في البطانة إرتكازات صغيرة للدعامة كل إرتكاز به (5 ــ 6) لاحظت أنهم سكارى ويقومون بشفشفة المواطنين، ويقومون بأخذ مبلغ مالي من سائق الحافلة ويسمونه رسوم عبور ولو رفض لا يسمحون لنا بالمرور.. بهذه الطريقة عبرنا عشرة إرتكازات حتى وصلنا الظلط القادم من الجيلي عند منطقة البسابير وهي منطقة تابعة للجيش.. وهناك شاهدنا الكاكي الأخضر لأول مرة فأخذ بعض الركاب يبكون من الفرح بالنجاة، وأذكر أن احدهم أصيب بهستيريا وأخذ يصيح بأعلى صوته وهو يبكي:” الأخضر .. الأخضر .. لينا منكم زمن .. نحن تعذبنا .. نحن جعنا .. نحن متنا .. الدعامة بهدلونا وعذبونا في توتي”.. والإرتكازات في طريقنا لشندي كانت كثيرة وصارمة لكنها للحق كان أفراد الجيش في منتهى الذوق والمعاملة الراقية والإحترام, ويطلبون إنزال العفش ويبررون ذلك أنه ربما يكون أحد المندسين وسطكم يقوم بتهريب مسيرات ويوزع أجزائها داخل الحقائب، فما نقوم به من أجل سلامتكم.
أخيرا دخلنا مدينة شندي ودخلت معنا عشرة حافلات طوف قادمة من توتي ومن مناطق أخرى، فتنفسنا الصعداء، ولأول مرة اخرجنا الموبايلات وشرعنا نتحدث مع أهلنا.. ولأول مرة نشاهد الطماطم واللحم ونشم رائحة الشية.. ومن موقف شندي تفرق شملنا فالبعض قرر التوجه لامدرمان وآخرين توجهوا لعطبرة ثم بورتسودان وكنت من بينهم ووصلناها أخير في امن وآمان وسجدنا لله تعالى سجود الشكر لنجاتنا من الموت بإعجوبة الحمدلله.