طوفان يهدد السودان.. وأمتار تفصل جزيرة تاريخية عن الغرق

بينما يعلو هدير النيل الأبيض ويبتلع الأرض والتاريخ في لحظة محكومة بالخوف، يقف السودان على حافة كارثة غير مسبوقة، طوفان لا يرحم يغمر حياة مئات الآلاف، ويشطب إرثًا تاريخيًا لا يعوض. من غار الإمام المهدي في الجزيرة أبا إلى آثار الكوة، يندثر وجه حضارة إنسانية تحت وطأة هذا الطوفان الذي يحمل في طياته نُذُر فقدان مزدوج: الأرواح والماضي. هل نحن على موعد مع مأساة تشبه ما عايشته درنة الليبية؟

فيضان النيل الأبيض، الذي يتدفق بوحشية، يحول الحياة إلى كابوس مزمن لمئات الآلاف الذين يعيشون على ضفتيه. أكثر من 700 ألف إنسان في قلب طوفان مدمر يهدد وجودهم بكل ما يحملونه من أمل، حيث تغرق الأراضي الزراعية والحيوانية التي كانت مصدر قوتهم. في مناطق مثل “مصران” و”أم جر”، تذبل آخر خيوط الأمل، وتحيط المياه بكل شيء حتى أصبح الزرع والرعي على حافة الفناء التام.

الجزيرة أبا.. بين الطوفان والانهيار
بدوره، قال نصر الدين مفرح، الوزير الأسبق وأحد أبناء الجزيرة أبا بولاية النيل الأبيض، لـ”العربية.نت”: في قلب هذه الكارثة، تقف الجزيرة أبا، تلك الأرض التي تفتخر بتاريخها، عاجزة أمام قسوة المياه الجارفة. انهار نحو 9 آلاف منزل، منها 3 آلاف دُمّرت بالكامل، و6 آلاف تآكلت تدريجيًا حتى أصبحت مجرد هيكل هش. التوقعات تشير إلى أن 10 آلاف منزل قد يختفي تمامًا مع ارتفاع المياه التي بدأت تتسلل لأكثر من متر داخل البيوت. الجزيرة التي تمتد على 35 ميلًا طوليًا و3 أميال عرضيًا، أصبحت ساحة معركة غير متكافئة بين الإنسان والماء الذي لا يرحم.

حتى المواقع التاريخية التي لا تقدر بثمن، لم تسلم من هذا الطوفان المدمر. المحاصيل الزراعية على ضفاف النيل الأبيض، التي تمتد من مدينة الجبلين قرب الحدود بين السودان وجنوب السودان إلى منطقة القطينة، لم تعد سوى أطلال تروي حكايات الماضي. أما المواقع الأثرية مثل غار الإمام المهدي في الجزيرة أبا، التي كانت رمزًا لإرث ثقافي وإنساني عظيم، فقد بدأت تتلاشى أمام أعين العالم، وكأنها عزاء لحضارة كان يفترض أن تبقى.

تبقت أمتار فقط لغرق الجزيرة أبا
وأضاف مفرح لـ”العربية.نت” أن الجزيرة أبا، التي كانت موطنًا لنحو 105 آلاف نسمة، بينهم 15 ألفًا من النازحين الذين فروا من مناطق النزاع في الخرطوم والجزيرة، تواجه انهيارًا كليًا. المياه تتسابق نحو أعلى نقطة في الجزيرة، التي تقع على ارتفاع 389 مترًا فوق سطح البحر، وقد وصلت المياه الآن إلى 375 مترًا. أما جزيرتا “أم جر” و”مصران”، فمحاصرتان بالكامل.

وتشير التقارير إلى أن الأمطار الغزيرة غير المسبوقة في أوغندا رفعت مناسيب بحيرة فيكتوريا إلى مستويات خطيرة، ما أدى إلى تدفق هائل للمياه في النيل الأبيض، مسببًا فيضانات كارثية في السودان. وأصبحت ولاية النيل الأبيض منطقة منكوبة، حيث غمرت المياه أجزاء كبيرة من الجزيرة أبا، كوستي، والدويم، مما ترك آلاف الأسر بلا مأوى ودمر الممتلكات. ومع تحذيرات أوغندية من استمرار ارتفاع مناسيب بحيرة فيكتوريا، يتزايد القلق من تداعيات كارثية على دول المصب، وعلى رأسها السودان.

خطر خزان جبل أولياء
إغلاق بوابات خزان جبل أولياء أصبح أحد العوامل التي فاقمت الوضع، حيث تراكمت المياه بشكل غير مسبوق مهددة بفيضانات أكثر تدميرًا إذا استمر الوضع الراهن. مصادر رفيعة في وزارة الري المائية بالسودان أكدت لـ”العربية.نت” أن الحل العاجل يكمن في إعادة إدارة خزان جبل أولياء إلى سلطة وزارة الري، مما يسمح للمهندسين بالتحرك الفوري لإصلاح الأعطال الناجمة عن الحرب وفتح البوابات لانسياب المياه كما كان في السابق. وحذرت المصادر من أن المياه قد تتجاوز جسم السد العتيق الذي أُنشئ قبل 86 عامًا، وعندها ستقع الكارثة.

السيناريو المأساوي.. هل يتحرك المسؤولون؟
يشكل هذا المشهد المأساوي إنذارًا قاسيًا لتداعيات تغير المناخ وسوء الإدارة على حياة الملايين. تبقى التساؤلات مفتوحة: هل ستتحرك السلطات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ أم أن النيل الأبيض سيكتب فصلًا جديدًا من الألم والدمار يشبه مأساة درنة التي لم تُمحَ بعد من ذاكرة العالم؟