صناعة الطوب الأحمر..تقلق المزراعين في الشمالية… هل تلتهم الأرض الخضراء؟

- ملاك السواقي والمزارعين تخلوعن الزراعة وفضلوا أيجار أرضيهم لإقامة (الكماين)
- مزارع : إرتفاع كلفة الزراعة يدفع ملاك الأراضي للبحث عن مصادر دخل سريع
- إنتشار (الكماين) تسبب في ظهورأمراض جلدية وأخرى تصيب العيون لم تكون معروفة بالمنطقة
تحقيق – وليد كمال الدين
مع بداية الموسم الزراعي الشتوي في الولاية الشمالية التي إشتهرت حقولها بإنتاج القمح والفول المصري و التوابل تبرز العديد من التحديات التي تشغل بال المزارعين والقائمين على أمرها, منها التمويل ونقص المياه وإرتفاع كلفة الإنتاج إلى جانب قضايا أخرى تتعلق بالتغول على الأرضي الزراعية من خلال أنشطة جديدة مثل صناعة الطوب الأحمر ( الكماين) والتي تتمدد يوما بعد الآخر على حساب الأرضي الزراعية البكر, وتنذر بمخاطر بيئية وتغير في نمط السلوك الاقتصادي لتوفير دخل سريع وسهل يغري بهجر إرث (الطورية والواسوق) وإختفاء الأراضي الحكر الصالحة للزراعة في الشريط النيلي – مايعرف بالسواقي- في جوف الكماين وتصبح أثر بعد عين.
قلق على مستقبل الأرض :
الصديق عثمان الذي ورث من أسلافه امتهان الزراعة في جروف النيل وأفنى زهرة عمره في الحقول قبالة منطقة (كابتود) التي تبعد بضع كيلومتر شمال العاصمة الإدارية للولاية مدينة (دنقلا) يساوره القلق من إنتشار ( الكماين) حول مساحة الأرض التي إعتاد زرعتها بالفول المصري والقمح, ويعزي الصديق أسباب زيادة الإقبال على تحويل الأراضي الزراعية الخصيبة لمواقع لصناعة الطوب لإرتفاع كلفة الإنتاج الزراعي حيث يكلف التحضير المبدئي للفدان الواحد مبلغ يتجاوز 500 ألف جنيه بالإضافة إلى أجرة الري والأسمدة, وهذا ما يدفع ملاك الأراضي للبحث عن مصادر دخل سريع سهل بايجارها لإقامة (كماين) لإنتاج الطوب الأحمر والتخلي عن زراعتها.
النشاط الهدام:
ويختزل المهندس الزراعي ياسين إبراهيم رؤيته للظاهرة في أن استغلال الأراضي الزراعية لاقامة (كماين) لإنتاج الطوب الأحمر يتسبب في عدم صلاحية الأرض المستغلة للزراعة مرة أخرى, إلا بعد إجراء معالجات مكلفة للغاية لإعادتها لدائرة الانتاج في المستقبل ويصفها بالنشاط الهدام, ويشدد ياسين على أهمية تفعيل القوانين التي تمنع تحويل الأراضي الزراعية لإقامة الكماين الظاهرة التي تهدد باختفاء المساحات المخصصة منذ القدم للزراعة على ضفاف النيل والتي تتميز بالخصوبة والإنتاجية العالية.
تلوث بيئي ومخاطر صحية:
في المنطقة المقابلة للجرف النيلي حيث تتنفس الكماين التي يتم حرقها على مدار اليوم ثاني أكسيد الكربون يشتكي السكان هنا من أمراض تنفسية وجلدية وأخرى تصيب العيون لم تكون معروفة وإنتشار الحشرات الطائرة ومنها البعوض الناقل للملاريا حيث يتسبب دخان الكماين في طرد تلك الحشرات من المناطق الزراعية للمنطقة وتهديد الأمن الصحي للمواطنين.
أرباح سريعة :
تحت ظلال أشجار نخيل عتيقة أضحى ثمرها صعب المنال لإرتفاعها الشاهق يجلس أحمد عثمان (جلابي), أبرزالمستثمرين في صناعة الطوب الأحمر بالمنطقة يحتسي كوب من القهوة ويرقب عن كثب حركة العمال في كمينته ومعظمهم من الوافدين وهم منهمكون في العمل الشاق والذي يبدأ مع ضوء الفجر وينتهي قبيل المغيب.
لا يكترث الجلابي بالضررالذي تلحقه الكماين بالأرض الزراعية ولا بالبيئة, ويؤكد بأن نشاط الكماين قانوني ويتم بموافقة أصحاب الأراضي وبعد الحصول على التصاديق المطلوبة, ويعترف الجلابي بأن أسهم صناعة الطوب الأحمر إرتفعت وأصبحت مربحة مع زيادة الطلب في ظل إقبال أبناء الولاية الوافدين بسبب الحرب على تشييد أرضيهم السكنية التي كانت مهملة منذ سنوات بعيدة بقصد السكن والإيجار الذي تضاعف بصورة خرافية حيث يبلغ إيجار الغرفة نحو 300 ألف.
ويقول جلابي إن سعر ألف الطوب الأحمر فرز أول قفز لنحو 145 ألف جنيه وغير متوفر إلا عبرحجز مسبق قبل حرق (الكمينة) الذي يستغرق ثلاثة أشهر من التحضير.
ويضيف الجلابي أن العائد المادي جيد دون أن يفصح عن أرقام ويختلف حسب مساحة الأرض المقام فوقها (الكمينة) وعدد العمال المشاركين في إنجاز العمل.
عمل شاق ودخل زهيد:
بعد يوم شاق من عمل يمتد أحيانا حتى مغيب الشمس يعود عمال (الكماين) إلى أكواخهم الصغيرة البالية التي تحوي أبسط مقومات العيش – سرير وكانون لإعداد الطعام وزير ماء- وتفتقر للكهرباء ومصادر المياه النظيفة ويرفع العمال عن أنفسهم بالأنس والغناء رفقة آلة الربابة ولاتخلو لياليهم وفق إفادات عبدالله ميري الذي تعود جذوره إلى غرب السودان من حوادث مثل لدغات العقارب والثعابين والتي يصل سعر جرعة المصل لها 160 ألف, ويضيف بأن العائد الذي يحصل عليه عمال (الكماين)بعد ثلاثة أشهر موعد حرقها لا يوفر مقومات حياة كريمة ويلجاء الكثير منهم لزيادة دخله بصيد الأسماك وقطع وبيع الأخشاب وتربية الأغنام.
إرتفاع كلفة الإنتاج:
بعض ملاك السواقي والمزارعين الذين تخلو عن الزراعة وأيجار أرضيهم لإقامة (الكماين) يقولون إن ذلك يعود لأسباب عديدة منها ملكية الأرض المتوارثة وصغر المساحة , حيث لا يتجاوز بعضها الفدان الواحد, إضافة لقلة العائد من الزراعة وكلفة الإنتاج فيما يبلغ العائد من إيجار الأرض لاقامة (كمينة) كبيرة لثلاثة شهور نحو ثلاثة مليون جنيه أونسبة من الطوب المنتج مابين 30 – 50 ألف طوبة تقدر قيمتها بسعر اليوم.
قيود وحرمان من الترفيه:
بعض المعارضين لظاهرة الكماين يقولون إن سكن العمال الوافدين بجوار الكماين ظاهرة غير حضارية لها افرازات اجتماعية وتقيد حركة واستمتاع الأسر بالحقول الزراعية والوصول للنيل خاصة النساء والأطفال القاصرين ويطالب هؤلاء بتحديد مواعيد للعمل ومنع السكن في موقع العمل.
سهولة التصديق:
إقامة كمينة على أرض زراعية منتجة وخصبة في السواقي على ضفاف النيل حيث كانت البيوت القديمة التي تم هجرها إلى أماكن مخططة تتوفر فيها الخدمات – بحسب قانوني وعضو سابق في لجان الخدمات لا يتطلب سواء طلب للجنة الخدمات من مالك الأرض أو الوراث بالحوجة لإقامة كمينة لأي ظرف ويتم التصدق عليه, علما بأن هناك تصاديق من جهات أخرى ذات صلة بحكم الإختصاص والمسؤلية على مستوى الولاية
حاشية:
الظاهرة تستوجب إنتباه وحوار شفاف بين جميع الأطراف المعنية ودراسة علمية لتقيم الأثار السالبة في ظل إنخفاض مستويات تراكم الطمي السنوية على ضفاف النيل بفعل السدود, ويعتبر الطمي عنصر أساسي في صناعة الطوب.