المسافات الإبداعية والتكنيك الكتابي في مجموعة “وصال وستائر لا يبللها ماء” للكاتب حسن البطران وتأويل المتلقي 

 

قراءة : حورية الإرياني / كاتبة يمنية مقيمة في السعودية

 

 

في مجموعته القصصية “وصال وستائر لا يبللها ماء”، يقدّم الدكتور حسن البطران تجربة سردية تعتمد على الإيحاء والتكثيف والغموض.

فهو كاتب، كما يتضح، لا يلهث خلف الدهشة بقدر ما يكتب وكأنه يحلم، ليثير أفكارًا يحاول القارئ جاهدًا أن يجد لها التأويل المناسب، الذي ما يلبث أن يتدفق ملءَ يديه لتتضح بعدها الرؤية.

فنصوص الكاتب المختزلة اعتمدت على الغموض والإيحاء، لنراه يترك مسافة بين كلماته و القارئ، تلك المسافات التي غالبًا لا تُملأ إلّا بأفكار القارئ وأفق توقعاته وقدرته على التأويل. فمن ميزات أسلوب الكاتب أنه موجز إلى حدّ الصمت، مما يشكل فراغًا هائلًا للمتلقي.ففي قصته المعنونة بـ”صلاة”، مثلًا:

 

“صلاة”

فاجأته..

فأعطاها عقدًا جديدًا أحمر..!

 

هنا، لا يشرح الكاتب ولا يبرّر، لنفاجئ بانه يتبعها في الصفحة التي تليها قصة بعنوان:

 

“أفق”

انتظرها،

قطعت القلادة.!

 

وكأنها تتمم ما قبلها. لهذا أظن أن الكاتب يكتب لنخبة تعتاد الغموض وتتذوقه.

 

المجموعة شملت عدة جوانب: اجتماعية، سياسية، وإنسانية. وكل قصة تهدف إلى نقد جانب معين من الحياة، ولكن بإيجازٍ مبالغ فيه. ففي قصة “أمومة” مثلًا، ينقلنا الكاتب إلى مشهد اجتماعي مشحون بالتوتر:

 

“أمومة”

أعطته الثقة، ملأت الحضانة بالأطفال ..

ابتسمت أمها وبكى أبوها..!!

 

القصة تُقدّم الأمومة كفعل تقوم به امرأة واثقة، لكن الكاتب يضع القارئ بعد ذلك في مواجهة نظرتين متناقضتين: ابتسامة الأم، وبكاء الأب.

هذا النص يفتح تأويلات متشابكة: فهل يُبرّر المجتمع فعل الأمومة إذا وقع خارج الأطر التقليدية؟ وهل العاطفة الأنثوية أرفع من معايير الذكر الحارس؟

وهكذا نكتشف أن عنوان المجموعة “وصال وستائر لا يبللها ماء” ينسجم مع طبيعة الكتابة التي يتبعها الكاتب. فـ”الوصال” يُحيل إلى العلاقة التي يسعى القارئ إلى بنائها مع المتلقي، أما “الستائر التي لا يبللها ماء” فهي تعبير عن النصوص التي تبقى معانيها خلف ستائر رمزية لا تنكشف بسهولة. تمامًا كما تظل الستائر في العنوان جافة رغم مرور الماء، وصحيح أن القارئ العادي قد يصل إلى حدّ الإغلاق ويعجز عن فكّ رموز النص، إلا أنه سيشعر بأن هناك معنىً مستتر يستحق التأمل، فهو يهتم بالقارئ العادي وجذبه نحو القصص وتأويلها وذلك عبر أساليب جذابة، ففي بعض النصوص ـ إن لم يكن أغلبها ـ مشهدية زائدة، رغم الغموض المفرط. واللافت في نصوصه أنها ليست ذهنية فقط، بل لها أساس جسدي محسوس. ففي الكثير من القصص، نجد أن الجسد حاضر، والعلاقات الإنسانية تبدو خلف رموز النص. فقصصه ناقدة ساخطة، لكن بصمت، هذا الصمت المتروك للمتلقي. وقد تجسد لي ذلك في قصته:

 

“الأسود يليق”

كُلف برفع الستارة، رفعها، جدد أثوابه وغير لون حذائه إلى اللون الأسود.

بعد مضي أيام قليلة، طالبهم بتجديد كرسيه وتغيير مكانه.

 

هنا نجد اعتراضًا وسخطًا، لكنه مخفي في نهايات لم تُكتب، وهذا الفراغ أو المسافة تتيح للقارئ التأويل حسب أفق توقعاته.

كذلك في قصة “إقحام طوبة”:

 

ألبسوه عباءة القيادة، بعد مدة وجيزة وجدوها ممزقة،

سألوه، قال لهم: أليس أنا قائدكم؟!

 

يُظهر الكاتب بسخرية كيف أن المنصب لا يصنع القائد، بل قد يُفضح ضعف المرء بمجرد أن يُمنح سلطة لا توافق إمكانياته.

 

ومن أساليب الكاتب الابداعية قدرته على جذب واستفزاز المتلقي لفهم النص ليجد نفسه يعيش ويتفاعل مثلًا في قصته “أرجيلة”:

 

لبس نظارته، ركضت الغزلان..

شدّ إزاره، طلب شراء نوع من الأرجيلة.!

 

ينتقد الكاتب فعلاً يتمثّل في الجدية، نستشعره بوضوح حين يربطها بلبس النظارة، ثم نفاجأ بركض الغزلان وارتفاع الجدية في عبارة “شد إزاره”، لتنتهي القصة بمرتفع آخر، وكأنها تسقط في العبثية بطلب نوع معين من الأرجيلة.

 

هنا، يحملنا الكاتب في ارتفاعات حسّية تجعل القارئ يشعر وكأنه يشاهد حلمًا كثيفًا بكل حضوره.

لينجح في زرع الإحساس بوجود شيء أكثر كثافة خلف الكلمات، أو خلف الستائر.

وهكذا يخلق الكاتب للنصوص أجواءً من التوتر، وهذا التوتر بين الحضور الطاغي والغموض المربك، بين الجسد والمعنى، وكذلك ترك فضاءات واسعة في النص ومسافات بين الكلمات.

 

وفي الأخير نستطيع القول بأن الكاتب استطاع بهذا التكنيك توظيف أسلوبه الغامض المختزل لينتج لنا نصوص ذات أفق متعدد بتعدد تأويلات المتلقي. فقراءة المجموعة تعتبر رحلة انفعالية مختلفة باختلاف القارىء وزمانه ومكانه وبيئته وأفكاره. وعليه، فإن تجربة القارئ مع “وصال وستائر لا يبللها ماء” ليست استهلاكًا لنص جاهز، بل هي رحلة تأويلية وانفعالية تتغير بحسب المتلقي، لتصبح المجموعة القصصية عملًا مفتوحًا على قراءات متعددة.