قهوة بمذاق آخر (الحلقة السادسة)

في حلقات أسبوعية كل سبت (تفاصيل) تواصل نشر رواية (قهوة بمذاق آخر) ..

تأليف: عمر أحمد المصطفى حياتي.

الناشر: دار آريثيريا للنشر والتوزيع – الخرطوم – السودان..

 

*الحلقة (6)*

 

اتصل على الفور بفريق عمله في الشركة، المدير المالي سليمان عبد الستار، كاتم أسراره وذراعه الأيمن ومستشاره في إدارة الشركة. وهو رجل في نهاية عقده الرابع، مربوع القامة، له رأس كبير أصلع، وعينان غائرتان في محجريهما لا تفارقهما نظارة النظر، وأنف أفطس وشارب خفيف، ويتميز بأناقة لافته، يجيد الاستماع ويحسن الصمت. والمدير الإداري محمد محمود المعروف بود محمود، رجل يزيد عمره عن الستين عاما، ولكنه قوي متماسك، طويل القامة، نحيف له لحية بيضاء مستديرة، وهو الوحيد في الشركة الذي يرتدي جلباباً أبيض ويعتمر العمامة ويلتحف الشال، تم تعيينه في الشركة بعد احالته للمعاش من ديوان شئون الخدمة للاستفادة من خبرته الطويلة، يتحدث باسم الشركة في برامجها الاجتماعية، يحب الاطلاع على أسرار الغير ونقلها. ومدير التسويق والمبيعات كمال راسطا، شاب وسيم حركي خفيف الظل، له شعر مجعد طويل مجدول، مهووس بموسيقى بوب مارلي، ويجيد العزف على الجيتار. وضمّ إليهم موظف البرتوكول والإعلام حازم الفكي، شاب حديث التخرج، طويل نحيف خفيف الروح، يحبه جميع موظفي الشركة، تعرف عليه أثناء قيامه بتصوير اجتماع الجمعية لعمومية للغرفة التجارية، وأعجب بنشاطه وتعامله اللطيف، وعرض عليه فورا العمل معه في الشركة عندما علم بتخصصه المزدوج في اللغة العربية والإعلام والعلاقات العامة وأنه من هواة التصميم، يعمل مصمم جرافك في مكتب إعلامي في المساء. كما انضمّ للاجتماع السكرتيرة نوال عبد السميع لغياب عزة.

أطلعهم التاج على عجل برغبة الشركة في الدخول في مجال استيراد المواد الغذائية وتسويقها. قدم سليمان تقريرا موجزا عن الوضع المالي الجيد للشركة. وأمن ود محمود على جاهزيتهم لتولي المهام المتصلة بالإجراءات الإدارية اللازمة. وأكد راسطا على أهمية الإسراع في هذه الصفقة لأنه تبقى على شهر رمضان حوالي شهرين وبالتالي يستطيع وزملاؤه تسويق الكميات في وقت مناسب. وسأل حازم عن عدد أفراد الوفد ليقوم بمهام الضيافة والتوثيق. التزمت السكرتيرة نوال الصمت لأنها لم تحضر اجتماعا مثل هذا منذ تعيينها بالشركة. طمأنها التاج في نهاية الاجتماع بأنه دعاها لحضور الاجتماع لغياب عزة، وأن مهمتها تتلخص فقط في كتابة تقرير عن الاجتماع وترتيب المستندات للطرفين، وسلمها قصاصة ورق كتب عليها المحاور الأساسية للجلسة وتقرير عن اجتماع سابق لتهتدي به.

رفع هامته وأخذته نشوة فخر وهو يتأمل صورته المنعكسة عليه من المرآة الدائرية الكبيرة التي وضعت لتعطي إحساسا بكبر حجم مكتبه الكبير أصلا، وسامة رجل في منتصف عقده الرابع، يتأمل بعجب هندامه الأنيق، تأكد من وضعية ربطة عنقه، رتب شعره، ووضع عطرا مميزا على عنقه ويديه متهيئا للدخول بقوة في عالم الاستيراد. دقائق معدودة تجمعه مع خالد العامري المستثمر الإماراتي الذائع الصيت، لمح لأول مرة شعرات بيضاء على شاربه، مسح على آثار تلك الكدمة السوداء أعلى خده الأيسر، يعتقد من رآها أنها وحمة طبيعية، لكنها في الأصل هي فقط ما تبقى من آثار سنوات عجاف عاشها في فقر مدقع. يذكر فيها كفاحه المستميت من أجل الحصول على لقمة عيش لم تتخط عتبة الكفاف. سنوات كالح وجهها، مَحْلُها وجفافها أكثر من خصبها، أحزانها لم تعط للأفراح سبيلا، أذاقته الأيام حياة مُرة المذاق، وأورثته سود لياليها السهاد والأحزان. لم يدع مجالا للكسب إلّا طرقه، وهو ابن التاسعة، عَمِلَ بائعا متجوّلاً للخضار، ثمّ حمّالاً في سوق الخضار، ومُراسلاً لتجار سوق أبوروف، وعامل بناء بأجر زهيد لهزال جسمه وقلة عطائه. يذكر تلك الأيام الحوالك، بعد وفاة والده الذي لم يترك له ولأمه وأخواته الثلاثة سوى بيت متهالك من الجالوص يفوق تاريخ بنائه الخمسين عاما، ورثه أبوه عن جده، في حارة يرجع تاريخها لحقبة المهدية، يذكر خاله فضيلًا بالخير أن فتح آفاقه في مجال التجارة واصطحبه معه في أسفاره الكثيرة، يعلمه فنون التجارة من ناحية، ومن ناحية أخرى يسند ظهره بما ينتفع به في إعالة والدته وأخواته.

أخذ نفسا عميقا، عض على شفته السفلى بحنق، كم تحمل عناء السفر مع خاله من أمدرمان لأم روابه والأبيض والفاشر والعودة إلى أم درمان بعد عقد صفقات مع تجار الحبوب والمحاصيل والخِراف. كم كانت قاسية الأيام تلك، خاصة سفريات العودة لأمدرمان في منتصف شهور الصيف، تحت شمس ظهيرة حارقة، على ظهور اللواري والجرارات المحملة بالفول السوداني والكركدي والسمسم.

يتذكر أحداثا كأنها البارحة، تحسس الكدمة على خده ثانية، لم يزل يتجرع مرارة ذلك الحدث، ساعة انهال عليه خاله لطما، وضربه ضربا مبرحا بعصا غليظة لم تترك مكانا في جسمه إلا ونالت منه. كاد ليقتله لولا تدخل نسوة كبار السن، حُلْن بينه وبين الصبي. ولُمْنه على غلظته وعدم رحمته على طفل صغير. كل ذلك كان جريرة استلامه مبلغا من أحد التجار دون عده، فلا يزال أثر أحد ضربات العصا تلك على خده. ما كره خاله مثلما كرهه ذلك اليوم. لم يسكت عنه الغضب حتى بعد أن غسل له خاله وجهه ونظف له الجرح ووضع ضمادة عليه. ولم تنفرج أساريره حتى بعد أن ضمه إلى صدره وأشفق عليه، بعد أن أنبه ضميره على غلظة فاقت الحد. ولم يفرحه الكيس المملوء بالنبق والقنقليز والقضيم والدوم وفول قوي الذي اشتراه له من ذات النسوة اللائي لمنه قبل لحظات. نساء يفترشن الأرض تحت شجرة ظليلة في سوق الأبيض، لهن حظ من الحكمة والرأفة لم يُقسم لخاله منهما نصيب. يذكر عطف حاجة النعمة من بين أولئك النسوة، حين أحاطته بثوبها الدَّمُّورِيّ ذي الرائحة المميزة، ودثرته به وضمته إلى صدرها لتحول بينه وبين عصا خاله التي كانت تهوي وتنزل بقسوة على جسده النحيل، وكانت تستحلفه:

خسمتك بي الله تخليه، فوقو الله، فوقو النبي، هي هو مو جاهل! يا راجل ما تصلي على النبي.

وبعد أن نجحت في إبعاده عن خاله الذي ما انفك يضربه حتى جثت عليه وغطته بكامل جسدها، ثم نظرت إليه بعد أن كف، وهي تنفض عن ثوبها غبارا لحق به، واسمعته كلاما لو لم يكن صادرا عن إمراه، لما سكت عليه، قالت له:

والله مو ولدك، إن بقا ولدك ما بتضربو ضرب متل ده، أنت مالك جنيت؟ جنيت آآ فضيل، بدور تكتلو، أمانة في زمتك أبوك رباك كدي، كر.. كر.. منك.. يايمه ومن سواد قلبك الما فيهو رأفة ولا رحمة.

لِم لم يقدِّر خاله صغر سنه آنذاك، طفل في الثانية عشر من عمره، لا عهد له بالعمل التجاري من قبل، كل جرمه أنه استلم مبلغا من تاجر معروف لخاله ولم يعده ليتحقق من المبلغ الذي ذكره التاجر له، لِم لم تتوفر الثقة بينهما، أغمض عينيه بعد أن رأى سحابة حزن غشيته، وصوت في صدره يقول: “رحم الله الخال، وعفا الله عنه، إن هذه البقعة السوداء ثمن ذاك الدرس الذي تعلمه، ألّا ثقة، مُطلقا، في المعاملات التجارية، هذه البقعة ما هي إلا مهر للوضع الذي أنت فيه الآن ”

قطع حبل استرساله في تلك المحطات والمواقف من تاريخه الحافل بالأحداث المثيرة دخول السكرتيرة نوال دونما استئذان، وقالت بصوت أجش:

يا معلم، الجماعة ديل ضربوا قالو بجو بعد عشرة دقائق.

حدجها بنظرة تنم عن عدم رضا لدخولها المفاجئ عليه، تأمل قولها “يا معلم” !!؟، وسأل نفسه هل أنا معلم بناء، أم ميكانيكي، أم سمكري؟ ولاحظ الفرق الكبير بين مناداتها له بهذه العبارة وبـين مناداة عزّة له بعبارة (يا أستاذ) حتى في نبرة الصوت وجماله، وفي طريقة دخولها دون استئذان منها وطريقة دخول عزة. كتم كلمة إساءة كادت أن تخرج من فمه، ولكنه آثر تلقينها درسا على ذلك لاحقا. رجع في هدوء وجلس على كرسيه الدوار الوثير، ونوال واقفة بالباب ترجو توجيها، عاتب حظه الذي حال دون وجود عزة في يوم كهذا، استئذان واتيكيت وتنظيم، ماذا لو أمرها بالمجيء للشركة بعد أن اطمأنت على الوضع الصحي لوالدتها؟، غمغم بصوت منخفض بعد أن أخذ نفسا عميقا كأنه يحدث نفسه “يلا”، ثم رد بحزم على نوال دون النظر إليها:

لما يوصلوا دخليهم غرفة الاستقبال والاجتماعات، وذكري حازم بواجب الضيافة والتصوير والتوثيق، وجهزي طاولة الاجتماعات بقوارير ماء، ولا تنسي أن تضعي زهور اضافية ومذكرات صغيرة وأقلام وعطري الغرفة. وحدجها بنظرة ازدراء واضحة وأردف.

يلا بسرعة.

حاضر.

أحست بعدم الرضا على جبينه، وبغضبه الذي حملته نظرته الحادة لها، حملت خطواتها مثاقلة للخلف وخرجت.

رن جرس هاتفه، نظر للمتصل فإذا هو كمال راسطا.

ألو، يا أستاذ.

مرحب راسطا، نعم؟

والله يا استاذ عندي ظرف حرج ومضطر أستأذن باقي اليوم ده.

يا جماعة إنتو الليلة مالكم، كل واحد مستأذن بي جهة، عزة وأنت وتاني ما عارف الحا يستأذن منو، يا راسطا الاجتماع باقي ليهو عشرة دقائق بس، أحضره يا أخي وبعدين أمشي.

والله يا أستاذ ما من طبعي أتغيب أو أختلق الأعذار لكن اتصل أبوي قبل شوية وقال في عربية عملت حادث في شارع الشنقيطي وللأسف دخلت في حوش بيتنا.

لا حول ولا قوة إلا بالله، إن شاء ما ضربت ليها زول؟

والله قال سواق العربية حالتو خطرة، وأختي وقع فيها سقف المطبخ، وهم الآن في طريقهم للمستشفى.

لا حول ولا قوة إلا بالله، يا رب سترك، أتوكل على الله يا راسطا، إن شاء ما تحصل عوجه، ما تنسى أضرب بعدين، وطمني على الوضع، وإذا انتهى الاجتماع بدري أكيد حا أجيكم، خلينا على اتصال.

إن شاء الله.