
(عطبرة اتبرا) والسكة حديد وجهان لعملة واحدة اسمها (السوداناوية)
*عبير الأمكنة*
*المليشيا المتمردة لم تستهدف (عطبرة) الا لأنها(كبري حواضر التعايش السلمي المجتمعي)*
*فارس استلهم(لن احيد) من نضالات (الاتبراويين) وشمس الدين قال في (اتبرا) ( مرحبتين بلدنا حبابا)*
*السكة حديد قربت المسافات وعززت وجدان السودانيين ومحطات القطارات كلها(مشاهد درامية* )
*(قطر الهم) حفظنا السكة محطة محطة و(قطار الشوق) متين ترحل تودينا*
*مشاهد ينقل تفاصيلها ل(تفاصيل)دكتور إبراهيم حسن ذوالنون*
عطبرة وكما تسمي أيضا(اتبرا) والسكة حديد صنوان.. لاتذكر السكة حديد إلا وتذكر عطبرة.. ولا تذكر عطبرة وإلا ومعها عبارة عاصمة الحديد والنار في اشارة الى السكة حديد والى حركة القطارات..
وكما قال الشاعر خالد الباشا عن حركة القطارات في رائعة محمد النصري (بحر الشعاع):
(*يا الله يوم كدي بالنهار فرح المواسم نفرعوا*
*صوت القطارت من بعيد فوق الفلنكات نسمعوا*
*أشواقنا والناس الزمان وكل المسافرين يرجعوا*
*ألمح حبيبي أنا من بعيد يهجم قليبي ويقطعوا*
*حزن السنين الفينا ساد أنا وإنتي سوا سوا نقلعوا* )
*معلومات اساسية:*
وعطبرة (أتبرا) يعود أصل اسمها لحالة هيجان (نهر عطبرة/الأتبراوي) الذي عند هيمانه ودخوله إليها من الاتجاه الشمالي الشرقي.. وانحداره بسرعة شديدة في سهولها المنبسطة حيث يحطم ويجرف كل ما يقع في مجراه وعلى حوالى ضفتيه من شجر ودواب وعمران وبشر..
وتكتب عطبرة باللغة الانجليزية [atbra].. ويشار لنهر عطبرة (الاتبراوي) بذات الكلمة.. حيث يقطع النهر مسافة 805 كليومتر ليتدفق في المدينة (عطبرة اتبرا)..
تقع مدينة عطبرة بولاية نهر النيل وتمثل أكبر مدنها على ارتفاع 350 متر فوق سطح البحر.. وتبعد عن العاصمة الخرطوم مسافة 313 كليومتر _حوالى 193/5ميل _ وعن مدينة الدامر عاصمة الولاية 10 كيلو متر _حوالى 6/2 ميل_ وتبعد من ميناء بورتسودان 611 كليومتر وعن واد حلفا 474 كليو متر..
ومدينة عطبرة مدينة صنعتها السكة حديد.. والتي جاء عمالها من كل أنحاء البلاد، تتكون من عدد من الأحياء وهي أحياء مكنوزة بعادات وتقاليد سودانية راسمة.. ولكل حي شخصيته المميزة له لكن كل أحيائها تأخذ طابع مدينة عطبرة (المدينة الهجين).. ففيها تكسرت كل دعاوى الجهوية والمناطقية وتعطل فيها صراخ وعواء السحنات والإثنيات.. فالناس كلهم (عطبراويون) لأن السكة حديد قربت المسافات وعززت الوجدان السوداني..
وأحياء مدينة عطبرة هي (الداخلة والموردة شرق وغرب والحصايا والسوق والامتداد الشرقي والامتداد الشمالي والمطار وخليوة وأمبكول والمربعات والسيالة القديمة والجديدة والكهرباء والسكة حديد.. الطليح والفكي مدني والقلعة والدرجة والدليل والمساكن الشعبية والمزاد والوحدة وحي العرب..
*مشروع اجتماعي:*
والسكة حديد تم إنشاء أول خط سكة حديد في السودان في العهد التركي 1875م وتوقف لأسباب اقتصادية وسياسية، ليتم استئناف العمل فيه ويكتمل في العام 1899م لأسباب عسكرية وسياسية.. ثم تواصل العمل في كل خطوة حتي مع بدايات الحكم الوطني وذلك لأسباب اقتصادية.. وتعد شبكة السكة حديد في السودان من أطول الشبكات في أفريقيا بطول 5800 كليومتر قبل انفصال جنوب السودان عن الدولة الأم.. ليصبح طولها بعد الانفصال 4725 كليومتر ..
وبولاية الجزيرة سكة حديد لأغراض مشروع الجزيرة وامتداد المناقل 1400 كليو متر.. وللسكة حديد خطوط رئيسة.. الخرطوم حلفا.. الخرطوم كريمة.. الخرطوم الأبيض.. الخرطوم الرهد الدبيبات ابوزيد الفولة بابنوسة المجلد الميرم.. وكان يمتد لأويل وواو قبل انفصال الجنوب.. وهناك خط من بابنوسة ويتجه نحو عديلة والضعين وينتهي عند نيالا..وهناك خط الخرطوم عطبرة بورتسودان.. وخط الخرطوم مدني سنار القضارف كسلا هيا بورتسودان..
وبرغم أن السكة حديد كانت مشروعا اقتصاديا سياسيا في المقام الأول، إلا أنه وبتمدد القطار في مسافات طويلة تحوّل لمشروع اجتماعي كبير.. تجسد في عطبرة عاصمة السكة حديد والتي خلقت مجتمعا سوداناويا انصهر مع بعضه بعيدا عن كل مظاهر التفرق والتشتت.. فهي مدينة وبشهادة علماء الانثربولوجي صنعت الوحدة وعززت وجدان السودانيين، ويكفي أن الشاعر أبوصالح في رائعته (من بف نفسك يا القطار) والتي غناها فضل المولي زنقار قد أعطى إشارات لذلك :
( *من بف نفسك يالقطار*
*ورزيم صدرك قلبي طار*
*وينو الحبيب*
*انت شلتو جيبو يالقطار*
*كم غربت من قريب*
*وكم قربت من غريب*
*ما خليت لي نصيب*
*غير البكاء والنحيب* )
*عطبرة قطار الشوق:*
والمشروع الاجتماعي للقطار وللسكة حديد مظاهره كثيرة، ظهرت ملامحه في الشعر والمسرح والدراما السودانية وفي الأغاني وفي الشعر، ففي التراث والأغنيات الشعبية غنت المحبوبة لحبيبها فقالت :
( *القطر الشال معاوية يتكسر زاوية زواية*
*والقطر الشالك انت يتكسر حنة حتة* )
أما الشاعر علي محجوب فتح الرحمن فكتب قطار الشوق، والتي غناها كثير من الفنانين.. من بينهم الثلاثي بنات طلسم البلابل وحسين شندي.. فقد جسد نفس المعاني وأعطى إشارات ل(عطبرة) ومشروع السوداناوية فقال:
(*قطار الشوق متين ترحل تودينا*
*نشوف بلداً حنان أهلها ترسى هناك ترسينا*
*نسايم عطبرة الحلوة تهدينا و ترسينا*
*نقابل فيها ناس طيبين فراقهم كان ببكينا* )
الى أن يقول:
*(ياقطار الشوق ده ليل الغربة فيهو ودار*
*متين تسرع متين بنكمل المشوار*
*عشان مانلقي فيها الناس ونطفي البينا من النار*
*نشوف عينيهو نعسانه ولونوا الزاهي كلوا نضار* )
*القطار مسرح ودراما:*
السكة حديد ومشروع السوداناوية الذي جسدته عطبرة أوحت للبروف عبدالله علي إبراهيم منذ سنوات طويلة لأن يكتب مسرحية اسمها (السكة حديد قربت المسافات) ويعني بالطبع عن تقريب المسافات أنها حقيقة طوت مئات الآلاف من الأميال والكليومترات لكنها في ذات الوقت ونتيجة لتنقل حركة قطاراتها وحركة تنقلات عمالها من الشرق الى الغرب ومن الصعيد (الجنوب) الى (السافل) قربت بين السودانيين.. فتقاربت بينهم المسافات الوجدانية فالسكة حديد كما يقول الكاتب الأستاذ عثمان شنقر في مقال له عن مسرحية (السكة حديد قربت المسافات) نشر في DW العربية بتاريخ 17/1/2013 قال:(السكة حديد قربت المسافات تمثل تمارا باذخا لأثر القطار في حياة السودانيين الذين يحنون لتلك الحقبة التي كان يمثل فيها القطار أكثر من وسيلة نقل تنقل من مكان لمكان آخر)
أما الأعمال الدرامية عن القطار والسكة حديد فيقف شاهدا عليها بل على رأسها المسلسل الإذاعي (قطرالهم)، الذي كتبه للإذاعة الراحل هاشم صديق وأخرجه محمود ياسين.. حيث يجئ صوت الممثل الراحل حسن عبدالمجيد بعد أن يطلق زفرة حرى:
(*حفظنا السكة محطة محطة*
*جبل موية جبل عطشان جبل رويان*
*ودالحوري ودالنيّل ود سجمان*
*وحتي الناظر وجرسه النائم*
*لون المكتب وعفش الناس*
*الماشي يناهد بالكيمان* )
وقد أبدع المبدع أبو عركي البخيت حين غنى:
( *قطر ماشي*
*وعم الزين وكيل سنطور*
*وزي ما الدنيا سكة طويلة مرة تعدي مرة تهدي مرة تطول*
*عمي الزين محكر في قطار الهم*
*يشرق يوم ..يغرب يوم شهور ودهور)*
*قطار الغرب قصة أخرى:*
الشاعر الدبلوماسي الراحل محمد المكي إبراهيم أعطى من خلال قصيدته قطار الغرب بعدا آخرا للسكة حديد ولقطار (الأبيض الخرطوم).. حيث ناقش من خلال لوحات درامية كل الأجندة السودانية من خلال مقاطع درامية من داخل القطار ومن خارجه (محطات وسندات القطار) فقال:
*(اللافنة البيضاء عليها الاسم باللون الأبيض باللغتين..*
*عليها الاسم هذا بلدى والناس لهم ريح طيب*
*بسمات وتحايا ووداع متلهِّب*
*كل الركاب لهم أَحباب*
*هذى امرأة’’ تبكى*
*هذا رجل’’ يخفى دمع العينين بأكمام الجلباب*
*:سلّم للأهل ولا تقطع منا الجواب*
*وارتجَّ قطار الغرب..تمطَّى فى القضبان*
*ووصايا لاهثة تأتى وإشارات ودخان*
*وزغاريد فهناك عريس فى الركبان* )
وفي مشهد آخر ولكن داخل القطار يقول:
*(ساعات الأكل تعارفنا..الصمت الجاثم فى الحجرات إنزاح*
*وتبادلنا تسآل فضوليين..*
*تحدثنا فى ساس يسوس وتحذلقنا عن جهد الانسان الضائع*
*فغرسنا كل الأنحاء مزارع*
*جئنا بالجرارات حرثناها*
*هذى الأرض الممتدة كالتاريخ*
*حبلى بالشّبع وبالخصب المخضل* *والناس هنا خيرات الأرض تناديهم*
*لا أذن تصيخ*)
*عطبرة ملهمة الشعر:*
يروي الشاعر شمس الدين حسن خليفة أنه عاد من إجازة قضاها خارج البلاد وتحديدا في مصر وقد قضت أسرته أياما جميلة..لكنهم يوم عادوا من الإجازة لعطبرة كان الصيف في أوجه والغبار العالق في كل نواحيها.. ثم جاءت عاصفة ترابية (كتاحة) فقال أحد أبنائه:(دي بلد دي) فرد عليه بقصيدته الشهيرة التي غناها العطبراوي (حسن خليفة) فقال فيها:
(مرحبتين بلدنا حبابا
حباب النيل حباب الغابة
ياها ديارنا نحن اصحابها
نهوي عديلا نرضي صعابا
نعشق شمسها الحراقة
بتلهب في قلوب دفاقة
نحنا شعارنا حب وصداقة
للناس الصفت اخلاقها)
الى أن يقول :
( نحن بلدنا بي خيراتها
البلد البتشبها ياتا)
*فارس :لن احيد:*
برغم إنني لم أقف على القصة الحقيقية لقصيدة لن أحيد للشاعر الراحل محي الدين فارس وانشدها المبدع الراحل حسن خليفة العطبراوي في ظني أن عطبرة بناضلها قد ألهمه القصيدة والتي قال فيها:
(أنا لست رعديداً يُكبل خطوه ثِقل الحديد
وهناك أسراب الضحايا الكادحون
العائدون مع الظلام من المصانع والحقول
ملؤوا الطريق
وعيونهم مجروحة الأغوار ذابلة البريق
يتهامسون
وسياط جلاد تسوق خطاهمو
ماتصنعون؟
يجلجل الصوت الرهيب
كأنه القدر اللعين
وتظل تفغر في الدجى المشؤوم أفواه السجون
ويغمغمون
نحن الشعب الكادحون)
*عطبرة والمليشيا:*
ربما ثار في ذهن الكثيرين لماذا عطبرة حاضرة في مخططات المليشيا المتمردة وقد استهدفتها مرات ومرات؟ ..
بالطبع عطبرة ليست مستهدفة بحكم أنها إحدى حواضر السودان النيلي أو تمثل رمزية لدولة 56 التي اعتبرتها المليشيا هي أس وأساس ما حدث في السودان من واقع مأزوم.. ولكن لأن عند عطبرة تتكسر كل إدعاءات المليشيا.. فعطبرة منطقة جغرافية صحيح أنها تقع في شمال السودان وعلى النيل..لكنها بفعل ما أحدثته السكة حديد أصبحت مدينة لكل السودانيين.. ففي أتبرا تتكسر الجهويات والمناطقيات.. وفيها لايسمع عواء السحنات ولا عوار الإثنيات.. فهي تمثل أرض خير لكل السودانيين..