دارفور بعد هزيمة الدعم السريع… هل تنجو القبائل العربية من لعنة الوصم؟

تقرير – د. عبد الناصر سلم حامد
بينما تضع الحرب أوزارها في دارفور، يلوح في الأفق شبح إنتقام جماعي قد يعيد استنساخ جذور الأزمة ويفجّر نزاعات جديدة داخل الإقليم وخارجه. ارتبطت بعض القبائل العربية، قسرًا أو طوعًا، بمليشيا مهزومة عسكريًا ومنبوذة شعبيًا، لكن امتداد هذه القبائل عبر حدود تشاد وليبيا يجعل أي خطاب إقصاء أو وصم تهديدًا عابرًا للحدود. وهنا يتجدد السؤال الأصعب: كيف نمنع هزيمة المليشيا من التحوّل إلى لعنة طويلة الأمد تصيب مجتمعًا بأكمله بجريرة من حملوا السلاح بإسمه؟
جذور التعايش قبل الانقسام:
تاريخيًا، كانت القبائل العربية جزءًا أصيلًا من نسيج دارفور الأهلي؛ اعتمدت على الرعي كمورد رزق رئيس، ونظّمت حياتها عبر مجالس عرفية مثل (الديات) و(الجودية) التي ضمنت السلم الأهلي عبر الأجيال. كان نظام الإدارة الأهلية صمام أمان يحل النزاعات ويضبط الهجرات الموسمية بين القبائل المختلفة. هذا التعايش لم يكن خاليًا من الاحتكاكات لكنه صمد لعقود، حتى بدأ يتآكل مطلع الألفية مع تصاعد النزاعات على الموارد، وتراجع هيبة الإدارة الأهلية بفعل التسييس وضعف الدولة، ليظهر مشروع المليشيات المسلحة التي مزجت الهوية بالسلاح.
من التعايش إلى الاشتباه:
مع تصاعد النزاع وصعود الجنجويد ثم قوات الدعم السريع لاحقًا، تحوّل الإنتماء القبلي إلى تهمة جماعية. الإعلام المحلي والإقليمي، بضعفه أو تحيّزه، ساهم في ترسيخ صورة أن كل (عربي) في دارفور يحمل سلاحًا أو يدعم القتال. هذه الصورة تجاهلت ملايين الرعاة والمزارعين الذين بقوا خارج دوامة العنف. فقد غابت الأصوات التي تفكّك هذه الصورة النمطية وتكشف الفوارق الدقيقة بين المجتمع الأهلي والشبكات المسلحة.
الإدارة الأهلية.. حجر الزاوية :
لعبت الإدارة الأهلية دور الوسيط الطبيعي بين الدولة والمجتمع، لكنها تفككت مع الزمن. بعض الزعامات التقليدية تحوّلت إلى واجهة سياسية أو وسطاء للمليشيات مقابل نفوذ سريع أو امتيازات. هذا التسييس فرّغ الإدارة الأهلية من وظيفتها الأصلية كضامن للتعايش وحارس للعرف الأهلي. ولهذا فإن أي مشروع مصالحة لا يمكن أن ينجح دون إعادة هيكلتها كجسم مستقل غير خاضع لهيمنة الدولة أو أمراء الحرب.
تفكّك الولاءات.. لحظة مراجعة:
اليوم نرى علامات تفكك حقيقية لتحالفات الدعم السريع؛ فالولاء الذي بُني على الحماية أو الخوف ينهار عندما تسقط ورقة القوة. داخل نفس القبيلة، بدأت انقسامات واضحة تظهر بين أفرعها حول مشروعية استمرار القتال. بيان «تنسيقية أبناء الرزيقات» في يونيو 2024 عبّر عن لحظة مراجعة صريحة عندما أعلنوا البراءة من القتال تحت لافتة القبيلة. قال أحد الأعيان: (لم نقاتل لنربح مليشيا، بل لنعيش مع الجميع تحت دولة واحدة) شيخ محلي أضاف: (مستقبل أولادنا أهم من ولاء مليشيا زائلة) تقديرات محلية تشير إلى أن 70% من أبناء القبائل العربية لم يحملوا السلاح رغم الضغوط، ما يعني أن المجتمع بدأ يراجع خيار تسييس هويته.
خطر التوظيف الإقليمي:
تمتد القبائل العربية إلى تشاد وليبيا، وهذه الحدود ليست خطوطًا على خريطة بل ممرات حياة للرعاة والتجار منذ أجيال. اليوم، ومع هشاشة الوضع الأمني في الجنوب الليبي وشمال تشاد، صارت هذه الحدود تُستغل لتوظيف المجموعات كمرتزقة أو وسطاء صراع. أمثلة كثيرة تؤكد كيف استخدمت بعض الحركات التشادية الفصائل الدارفورية كذراع بشرية في نزاعات محلية. ومع تراجع سيطرة الدولة في بعض المناطق، قد يصبح الشباب الذين يشعرون بالوصم الجماعي مرشحين مثاليين لهذه الشبكات. إن تجاهل هذا البُعد يعني بقاء الأزمة داخل السودان خطرًا إقليميًا عابرًا للحدود.
الإعلام المحلي.. فجوة صوت ومعلومة:
رغم خطورة الأزمة، ظل الإعلام المحلي في دارفور ضعيفًا ومحدود الموارد معظم الإذاعات الصغيرة والقنوات المحلية غائبة عن التحقق من الأخبار أو مواجهة خطاب التحريض. بعض المحاولات لإطلاق برامج حوارية للتعايش لم تحظَ بتمويل أو حماية، فتوقف الكثير منها. هنا تظهر فجوة كبرى: من دون رواية مضادة قوية لن يمكن تفكيك الدعاية التي تخلط بين المجتمع الأهلي ومليشياته المسلحة.
خطاب الكراهية.. أرقام صادمة :
رصد تقرير لوكالةEUAA
في فبراير 2025 أكثر من 518 منشورًا تحريضيًا استهدف العرب والزغاوة ضمن حملات تعبئة على وسائل التواصل. منصة Beam Reports وثّقت أكثر من 20 حملة دعائية رقمية غذّت خطاب التحريض. منظمة Emergency Lawyers في تقرير أبريل 2025 أكدت أن نشر «قوائم سوداء» بأسماء مزعومة لمقاتلين أدى لعمليات قتل ميداني. «هيومن رايتس ووتش» ذكّرت في تقريرها (يونيو) أن التحريض بلا محاسبة ينسف فكرة العدالة الانتقالية من الأساس. من دون آليات حقيقية للرصد وتدريب الإعلاميين على كشف خطاب الكراهية مبكرًا، سيبقى سلاحًا جاهزًا لجولة جديدة من العنف.
المجتمع المدني والشباب.. الحلقة المفقودة:
إلى جانب الدولة، يظل المجتمع المدني الحلقة الأكثر حيوية إذا أُتيح له الفعل بحرية الجمعيات الشبابية ومبادرات المرأة قادرة على تفكيك الصور النمطية وفتح حوار حقيقي على مستوى القرى والمعسكرات. رواندا مثلًا بعد الإبادة أعادت بناء الثقة من خلال مبادرات مجتمعية لا مركزية. في دارفور اليوم، يمكن للجيل الجديد أن يكون حائط صد أمام التجييش إذا حصل على فرصة قيادة برامج التوعية والمصالحات.
دروس من العراق ورواندا وجنوب إفريقيا:
تجارب عديدة تثبت أن العقاب الجماعي طريق مسدود. في العراق بعد 2003 تحولت سياسة اجتثاث البعث إلى حاضنة تمرد جديد غذّى التطرف. رواندا أغلقت باب التعميم بفضل العدالة الفردية في محاكم (الغاتشاكا) التي أعادت تحميل الجريمة إلى مرتكبيها فقط. جنوب إفريقيا جنّبت نفسها حربًا أهلية شاملة عندما اختارت الحقيقة والمصالحة كطريق لترميم الشروخ. دارفور يمكنها أن تترجم هذه الدروس إن توفّرت الإرادة.
الدولة حجر الزاوية.. لا تعايش بلا مؤسسات:
حتى أنجح المبادرات ستظل هشة إذا غابت الدولة. الأمان القانوني هو الذي يمنح الشجعان الجرأة على نبذ خطاب الكراهية داخل مجتمعاتهم. حماية من يرفضون التجييش تحتاج تشريعات واضحة وأجهزة قضاء مستقلة قادرة على فرض القانون. من دون ذلك، سيكون الصلح مجرد إعلان بلا قوة تنفيذية.
خارطة طريق.. كيف نكسب السلام؟:
مستقبل دارفور لن يُكتب بشعارات عامة، بل بخطوات حقيقية منها: 1) المحاسبة الفردية لا العقاب الجماعي. 2) مؤتمر مصالحة حقيقي بمشاركة الزعامات الأهلية ومراقبة أممية. 3) إعادة هيكلة الإدارة الأهلية لتكون وسيطًا مستقلًا. 4) تمويل الإعلام الأهلي ليكشف خطاب الكراهية. 5) برامج دمج الشباب العائدين مع مشاريع تنمية ريفية. 6) شراكة مع المجتمع المدني لضمان استدامة الوعي.
هل نجرؤ على كسر الحلقة؟:
قد تنتصر البندقية ساعة، لكن من يكسر دائرة الانتقام هو من يكتب للتاريخ معنى النصر الحقيقي إنّ هزيمة المليشيا دون مصالحة عادلة تعني هدنة فقط لا سلامًا مستدامًا يبقى السؤال: هل يجرؤ السودان على عقد اجتماعي جديد يحمي التعدد وينهي التجييش باسم القبيلة إلى الأبد؟