ما عرف من الحرب بالضرورة (٢)
علي عسكوري
*اشرنا في المقال الأول إلى عدة قضايا تتعلق بالامبريالية واستهدافها لبلادنا بواسطة عملائها. وذكرنا أن تركيبة الدولة الحالية لا تناسبنا ويجب اصلاحها.
*نتناول في هذا المقال قضايا داخلية من صنع بعض القوى السياسية وما قامت وتقوم به من تخريب ممنهج لمؤسسات الدولة أضعفها وفكك تماسكه، هذا في مجمله لا يقل خطورة عن استهداف الامبريالية لبلادنا.
*كشفت الحرب عن ضعف بائن في مؤسسات الدولة وتآكلها، نذكر أن مؤسسات الدولة بكاملها كانت قد اخضعت لعمليات تشريد واسعة النطاق تحت حكم الإنقاذ التي طردت الكفاءات وجاءت باصحاب الولاء وأصبحت المؤسسات والوزارات تدار بأفراد من خارجها لا علاقة لهم بطبيعة عملها. وكنتيجة لذلك حفرت الانقاذ ببطء قبرها بيدها بتدميرها للخدمة العامة التي هي عماد الدولة.
*بحلول العام ٢٠١٩ كانت الانقاذ قد قضت على نفسها بتدميرها لمؤسسات الدولة وكانت تنتظر من يدفع منسأتها ليكتمل سقوطها.
* على مر التاريخ كانت آفة الانظمة الشمولية هي تدمير الذات دون قصد. فالجؤ إلى الولاء قبل الكفاءة في الخدمة العامة يضعف الأداء العام للدولة ويخلق بيئة صالحة للفساد. والفساد كما هو معروف مقتل كل الانظمة الشمولية.
*كشفت الحرب ايضا أن أغلب القوى السياسية يخلط بين الخدمة العامة وبين الولاء الايدولوجي.
* بدا اليسار تسيس الخدمة العامة باكرا بعد اكتوبر ١٩٦٤ بحملات التطهير، ثم اكمل حملته التطهيرية بعد انقلاب نميري عام ١٩٦٩. ثم جاء الاسلاميون مندفعين في ردة فعل فردوا الصاع صاعين لخصومهم فحولوا جهاز الدولة بكامله ليكون خالصا لهم صرف النظر عن الكفاءة. كان الولاء التنظيمي كافيا وحده كمؤهل لأي موقع في الدولة، بل طال التسيس حتى مؤسسات التعليم العالي وأصبح الشباب الذين شاركوا في حرب الجنوب ينالون درجات ليست من حقهم ولا تخضع لقدراتهم الذهنية والمعرفية، وهكذا انهارت مؤسسات التعليم العالي ايضا، طال ذلك حتى الشهادات العليا التي أصبحت على (قفا من يشيل) كما يقال. ذلك هو الفساد المؤسسي وهو اخطر أنواع الفساد لأنه يقود لانهيار المعايير.
*الآن نعلم أن تخريب و(حزبنة) المؤسسات قاد لنتائج كارثية في جميع أوجه الحياة في الدولة، حتى أصبحت النفايات تغطي طرقات العاصمة والمدن الأخرى ولا أحد يهتم ولا يحاسب مسؤول عن التقصير فالولاء التنظيمي يمثل حائط دفاع صلب عن المحاسبة. يمر المسؤولون على اكوام النفايات صباح مساء وكأنهم لا يرونها.
*كشفت الحرب بصورة دامغة خطورة تسييس الخدمة العامة وما ينتج عنه من تدهور وانحطاط في الحياة العامة، من لامبالاة و تسيب وعدم محاسبة، ينعكس ذلك في المظهر وفي الآداء. يكفي ان تذهب إلى وزارة أو مؤسسة حكومية لتعرف حجم الخراب الذي طالها من مظهر العاملين فيها.
*لكي تستمر متماسكة وقادرة على الإنجاز لجهاز خدمة عامة فعال وقوي ومهني، بصرف النظر عن طبيعة الحكم.
منذ العام ٢٠١٩ طفق ما كان يعرف بقوى الحرية والتغيير (قحت) يتحدث فقط عن اعادة تأسيس الجيش على اسس مهنية، وكأن باقي مؤسسات الدولة قائم على اسس مهنية..! هذا موقف ينبيء عن قصر نظر فاضح. وحقيقة استغرب الدعوة لى (مهنية الجيش) والصمت عن مهنية مؤسسات الخدمة العامة الأخرى التى خربت قحت ما بقي منها من خلال ما عرف بإزالة التمكين.
*إن كنا نتحدث عن المهنية يجب أن تشمل المهنية جميع مؤسسات الدولة مع التأكيد على خروجها جميعا من السياسة وليس الجيش فقط، فالجيش في نهاية المطاف مؤسسة عامة مهمتها الدفاع عن البلاد مع اختلاف طريقة عمله لطبيعة واجباته.
*بالطبع لا يمكن أن يكون لك جيش مهني في وجود خدمة مدنية مسيسة. هذا لا يستقيم ابتداء. فالجيش والأجهزة النظامية الأخرى في كلياتها هى ناتج للواقع الاجتماعي السائد ولطبيعة الخدمة العامة وقدرتها وفعاليتها. فمتى ما انتهي تسيس و ادلجة الخدمة العامة ستنتهي بالضرورة ادلجة وتسيس الجيش وغيره.
*ولذلك ان كنا نتحدث عن المهنية يجب ان تشمل المهنية جميع مؤسسات الدولة وليس القوات النظامية فقط. المدخل الصحيح أن نبدأ بمهنية الخدمة العامة أولا قبل الجيش، فمتى ما أنجزنا ذلك سيتحول الجيش وغيره من القوات النظامية إلى مؤسسات مهنية تلقائيا، لأن القوات النظامية جزء من كل، واصلاح الكل يعنى بالضرورة اصلاح الجزء.
*من واقع هذه الحرب يجب أن نكون جميعا (خاصة القوى السياسية) قد استوعبنا ضرورة أن تقوم جميع مؤسسات الدولة على المهنية المحضة، وأن اي مواطن سوداني – صرف النظر عن توجهه الايدلوجي- من حقه أن يعمل في المجال المؤهل له حسب النظم واللوائح وما تقرره قوانين العمل ولوائح الخدمة العامة، لا أن يكون الموظف العام نهبا لأهواء السياسيين أو ما يشكلونه من لجان حسب أمزجتهم وتوجهاتهم، ويجب أن يمنع القانون السياسيين من فصل أي موظف عام ويترك هذا الأمر لنظم ولوائح الخدمة العامة.
*لكي نبني دولة المؤسسات، من أول الالتزامات التي يجب أن تلتزم بها القوى السياسية يمينا ويسارا هو عدم التدخل في معايير التوظيف في الخدمة العامة، والالتزام بعدم تسيسها، ومنع الموظفين العموميين من ممارسة العمل السياسي، وأن تسن قوانين تعاقب الموظفين الذين يعملون بالسياسة تصل حد الفصل.
* كشفت الحرب أيضا أن قحت والحركات المسلحة ليست بأفضل حالا من المؤتمر الوطني في التمكين لأعضائهم أو محسوبيهم . يحتاج الإنسان ليذهب لبعض الوزارات التى تولتها الحركات وسيرى العجب! حاليا تحولت بعص الوزارات والشركات العامة الى family business، والما عاجبه (يشرب من البحر الميت) او كما قال عرمان!
*لذلك لا ادري لماذا احتجت قحت والحركات على تمكين المؤتمر الوطني لمحسوبيه وقد كان تمكينه أخف بكثير مما فعلوا ويفعلون وحقيقة (الاختشوا ماتوا).
*لقد قاد اتفاق جوبا لتمكين غير مسبوق في تاريخ السودان وقد آن لمجلس السيادة أن يتدخل لوقف ما يجري من تمكين قبل أن تصبح الدولة ملكا وضيعة خاصة لقبيلة واحدة.
هذه الأرض لنا