التعدين شمال السودان… تلوث “نشط” وشلل رقابي
يزخر السودان بكميات وافرة من الذهب، الذي يوجد في مساحات شاسعة من أراضيه، بخاصة في شمال البلاد، مما أدى إلى ظهور التعدين العشوائي باستخدام مادتي الزئبق والسيانيد اللتين تعتبران من المواد السامة والقاتلة.
وتسهم المادتان في تلوث مصادر المياه الجوفية والسطحية نتيجة للحفر العميق وتراكم التربة الملوثة بالكيماويات ونقلها من طريق الرياح بسبب عدم إزالتها، إلى جانب ترك الآبار المملوءة بمياه الأمطار مكشوفة، مما يؤدي إلى جرفها وجريانها بالسيول والفيضانات التي اجتاحت البلاد، مما أحدث أضراراً كبيرة في الولايات الشمالية التي تقع قراها ومدنها قرب مجرى النيل، وتشتهر بالتعدين التقليدي.
ولا تقف سموم هاتين المادتين عند مصادر المياه فحسب، بل تمتد إلى الإنسان وإصابته بالأمراض الخطرة، فضلاً عن أن الغبار الناجم من عملية الحفر وتكسير الصخور وطحنها يصيب الأجهزة التنفسية والعصبية والهضمية للعاملين، إذ تقلل المناعة ومن ثم الإصابة بالسرطان، بحسب منظمة الصحة العالمية.
وقد يتعرض الأشخاص إلى الموت بسبب انهيار الآبار أو لدغات العقارب والثعابين، التي تنتشر بصورة كثيفة في هذه المناطق، إلى جانب الحيوانات بتلوث المراعي أو شربها من الأحواض، مما يؤدي إلى نفوقها، إضافة إلى تلوث التربة وتعريتها وإتلاف الغطاء النباتي.
هذا النوع من التعدين الذي يرفد خزانة الدولة سنوياً بنحو 12 مليار دولار جذب أعداداً كبيرة من الشباب بخاصة في ظل تفشي البطالة بسبب الصراع المسلح بين الجيش وقوات “الدعم السريع” الجاري منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023 وأدى إلى توقف الدراسة بالجامعات، لكن المشكلة أن هذه الشريحة الشبابية لا تمتلك الخبرات الكافية في عملية التعدين عن الذهب، الذي يكون في الغالب مخلوطاً بالشوائب مما يتطلب استخلاصه نقياً باستخدام الزئبق والسيانيد مما تسبب في الانتشار الواسع للمكونات السامة الممنوع استخدامها قانونياً بواسطة التشريعات الدولية.
خبراء البيئة يشعرون بالقلق ويرمون باللائمة على جهات الاختصاص، إزاء التعدين العشوائي والآثار السلبية التي يفرزها بوجود نحو 700 ألف طن من مخلفات الزئبق والسيانيد وتسربهما إلى مصادر المياه وباطن الأرض، إذ إن الجميع يتغاضى عن هذه الأخطار البالغة ولا يهمه غير جني المال.
معدلات البطالة
الطاهر عبدالرحيم أحد مواطني مدينة أبو حمد ويعمل في مجال التعدين يقول إن “ما يتداول بأن بيئة بعض المناطق بالولايات الشمالية غير مناسبة لحياة الإنسان حقيقة، فضلاً عن وجود مهددات تقود إلى الموت، نتيجة للانتشار الواسع لمخلفات التعدين الناتجة من استخدام مادتي الزئبق والسيانيد السامتين ونقلها من طريق الرياح، إلى جانب السيول والفيضانات خلال فصل الخريف”.
وتابع عبدالرحيم “الأسوأ في الأمر أنها تكون عالقة في أيادي العمال، الذين لا يكترثون أثناء التنقيب بلبس قفازات تحميهم من السموم الكيماوية، إذ لا بد من استخدامهما لتنقية الذهب من الشوائب، على رغم التحذيرات ومنعها قانونياً، لا سيما أن المشكلة تكمن في عدم وجود آليات حديثة للحفر وتكسير الصخور وطحنها إلا عند الشركات الأجنبية الكبرى ذات الإمكانات العالية، التي تأتي إلى السودان بحثاً عن الذهب”.
وأضاف عامل التعدين “تكتظ معظم مناطق شمال البلاد بالمعدنيين من الفئات العمرية المختلفة، بسبب ارتفاع معدلات البطالة، التي تفشت بسبب حرب السودان بخاصة الشباب الجامعيون والرعاة، إثر انهيار قطاع الثروة الحيوانية والمزارعين بعد فشل الموسم الزراعي فمعظمهم جاء من ولايات دارفور وكردفان والنيل الأزرق والجزيرة والخرطوم، بخاصة أن العمل في مجال التعدين يدر أموالاً طائلة، لكن المشكلة أن غالبيتهم لا يملك الخبرة الكافية، مما يعرضهم للأمراض التي تصيب الأجهزة التنفسية والهضمية والعصبية، إلى جانب فقدان المناعة، وعلى المدى البعيد الإصابة بالسرطان”.
وأشار عبدالرحيم إلى أن “العاملين في هذا النشاط يعلمون جيداً بالآثار السلبية الناتجة من التعدين بطريقة بدائية، لكن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة قادتهم للمخاطرة بأرواحهم، فضلاً عن أن هناك كثيراً منهم كانوا ضحايا للموت بسبب انهيار الآبار أثناء الحفر، إلى جانب التعرض للدغات العقارب والثعابين”، لافتاً إلى أن الأخطار أيضاً “تحاصر السكان في المناطق الواقعة قرب مجرى النيل وتلوث روافده والوديان والخيران، إضافة إلى جرف أكوام التراب والحفائر العميقة التي تمتلئ بمياه الأمطار في محليتي بربر وأبو حمد، إلى جانب الحيوانات التي طاولتها سموم التعدين العشوائي بسبب تلوث المراعي وذرات الغبار العالقة على أوراق الأشجار، التي أسهمت في هلاكها”.
وأوضح عامل التعدين أن الجهات الرسمية تتغاضى عن هذه التجاوزات، في ظل غياب قوانين رادعة خلال هذه الأزمة الحالية، التي تمنع استخدام مادتي الزئبق والسيانيد في التعدين العشوائي ومخلفاته المعروفة بـ”الكرتة”.
تشوه الأجنة
من جهتها أوضحت الناشطة في مجال البيئة أمل سعيد أن “عمال التعدين الذين يمارسون هذه المهنة بصورة تقليدية، فضلاً عن استعمالهم مواد كيماوية أسهم في وجود أضرار للسكان، بخاصة النساء الحوامل بتشوه الأجنة والولادة المبكرة، إلى جانب إصابة الأطفال بالعمى والشلل وضعف المناعة”.
هل تتناسب مكاسب التعدين الأهلي في السودان مع مخاطره؟
وأردفت سعيد “هناك احتجاجات وشكاوى من المواطنين والناشطين في مجال البيئة بسبب تلك الأخطار التي يسببها هذا النشاط الخطر، وذلك نظراً إلى عدم الرقابة على شركات التعدين والمعدنيين والتراخي الذي صاحب انتشار الظاهرة على أوسع نطاق من الجهات المتخصصة، إذ تجلب كميات كبيرة من المواد السامة إلى تلك المناطق القريبة من عديد من المدن والقرى المكتظة بالسكان والنازحين والأسر المستضيفة، فضلاً عن أن المجتمعات المحلية لم تتلق توعية كافية للتعامل مع المكونات الكيماوية الخطرة”.
ولفتت الناشطة البيئية إلى أن” الولايات الشمالية شهدت تغيرات مناخية وأصبحت ضمن نطاق الأمطار الغزيرة، لذلك فإن حياة ملايين الأشخاص لا تزال في خطر بوجود خلاطات وغسالات التعدين البدائي في المناطق السكنية، في حين لا توجد مؤشرات للتخلص من مخلفات التعدين بطرق آمنة، ونظراً إلى ذلك فإن المسؤولية تقع على كاهل المواطنين في حماية أنفسهم وأخذ التدابير اللازمة لمنع تسرب الزئبق والسيانيد إلى مصادر المياه”.
ثراء سريع
في السياق ذاته قال المتخصص في علم الطبيعة جمال التوم إن “الأفراد والشركات الذين يعملون في مجال التعدين العشوائي لم يتسن لهم قبل عملية البحث عن الذهب فحص التربة وإجراء دراسة لطبيعة وجغرافية المناطق وتضاريسها بواسطة خبراء لمعرفة قربها من نهر النيل أو مجاري السيول، لا سيما أن جل اهتمامهم ينصب في استخلاص الذهب والثراء السريع”.
وأضاف التوم “المواطنون الذين يعيشون شمال البلاد معرضون للأخطار، نسبة إلى وجود نحو 700 ألف طن من نفايات التعدين في باطن الأرض تشتمل على الزئبق والسيانيد واختلاطهما بالتربة، وعند الحفر يترك التراب من دون إزالته، إذ تسهم الرياح في نقل الغبار الملوث لمسافات بعيدة وتكون من الأسباب الرئيسة في تلوث المياه”.
ونبه المتخصص في علم الطبيعة إلى أن “حجم الخطر يعد كبيراً، بخاصة بعد أخذ عينات من دم المواطنين ولبن الأم المرضعة وبول الأطفال الذين يقطنون هذه الأجزاء، إلى جانب الأطعمة والفاكهة والخضراوات والأواني المنزلية ومياه الشرب ولبن وشعر الحيوانات للوقوف على حجم المشكلة، لا سيما أن التقارير التي أجريت قبل الحرب كشفت عن أنها تحوي نسبة كبيرة من السموم، فضلاً عن أنها تتفاعل ببطء وتسبب الأمراض المميتة، وكذلك حساسية الجلد والإجهاض للمرأة الحامل والتشوه الخلقي للمواليد”.
صمت حكومي
على صعيد متصل أوضح المتخصص في مجال البيئة والسلامة محمد المعز أن “الشركة السودانية للموارد المعدنية ووزارة المعادن غير فاعلتين، وتؤثران الصمت حول الصلاحيات التي تندرج تحت مهامهما، فضلاً عن أن انتشار التعدين التقليدي شمال البلاد أدى إلى ظهور عديد من المشكلات والتحديات التي تتطلب التدخل السريع نظراً إلى أخطارها البالغة على صحة الإنسان”.
ومضى محمد في القول “المواطنون في محلية أبو حمد يدافعون عن أراضيهم، بمنع شركات التعدين والأفراد من نقل الزئبق والسيانيد إلى المناطق الواقعة قرب مصادر المياه، فضلاً عن أن هناك تحالفاً ما بين وزارة التعدين والشركات العاملة في هذا المجال، إذ تركز الحكومة على العائدات المالية الضخمة، من دون الإنفاق على صحة البيئة والمسؤولية المجتمعية”.
وأشار خبير البيئة في ختام حديثه إلى أن “إيرادات الذهب سنوياً تصل إلى 12 مليار دولار، إذ يجب تخصيص 120 مليون دولار منها لتفعيل دور الرقابة، إلى جانب تعيين فرق عمل في مناطق التعدين لنشر الوعي وفرض غرامة على المخالفين”.