هل استدركت بريطانيا مآلات حرب السودان؟

بعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في 2019 لعبت بريطانيا دوراً بارزاً، إذ مثلت إحدى محطات نفوذها في السودان الحديث، وكانت إحدى أكثر الجهات الفاعلة الخارجية مشاركة في السودان خلال فترة الحكومة الانتقالية، ضمن “الرباعية الدولية” المؤثرة إلى جانب الولايات المتحدة والسعودية والإمارات.

ومع ذلك فإن جهود بريطانيا لم تحرز تقدماً يذكر، خصوصاً بعد الإجراءات التي فرضها رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، ومع تمتعها بعلاقات تاريخية عميقة مع السودان بوصفها الحاكم الاستعماري السابق، وهي “حامل القلم” الحالي للسودان في الأمم المتحدة، والمسؤولة عن قيادة المفاوضات وصياغة القرارات في مجلس الأمن، فإن أداءها خلال فترة الحرب كان ضعيفاً بصورة لافتة.

أعلنت المملكة المتحدة تعيين ريتشارد كراودر الدبلوماسي في وزارة الشؤون الخارجية مبعوثاً خاصاً إلى السودان خلفاً لجايلز ليفر الذي تولى منصبه كرئيس للمكتب البريطاني في السودان منذ 2021 إلى 2023 خلفاً للسفير عرفان صديق الذي شغل منصبه منذ 2018 إلى 2021 وشهد الانتفاضة السودانية وسقوط الرئيس السابق عمر البشير.

وخلال هذه الفترة وبعد انقضاء فترة صديق تولى المبعوث البريطاني الخاص للقرن الأفريقي والبحر الأحمر جوليان رايلي مهام القائم بأعمال السفارة البريطانية بالخرطوم حتى مايو (أيار) 2023. وكان بوب فيرويذر المبعوث البريطاني الخاص للسودان وجنوب السودان.

وكراودر الذي تسلم مهمته بصفته رئيس المكتب البريطاني لشؤون السودان وممثلاً خاصاً للمملكة المتحدة، تعهد العمل على إنهاء النزاع في السودان وتحقيق السلام في المنطقة.

وكانت الحكومة البريطانية قد ألغت اعتماد منصب مبعوث خاص لها للسودان وجنوب السودان، وهو المنصب الذي كانت تعمل به خلال السنوات الماضية، وأبقت فقط مبعوثها للقرن الأفريقي، ولذلك فإن تعيين كراودر كدبلوماسي وقائم بالأعمال، جاء محملاً بتساؤلات عن مدى نجاحه فيما تعهده، وما إذا كانت بريطانيا استدركت مآلات حرب السودان وما تؤدي إليه من أزمات ممتدة.

اهتمام تاريخي

كان السودان جزءاً من الإمبراطورية البريطانية في عهد الحكم الثنائي الإنجليزي – المصري منذ 1899، إذ غزت القوات البريطانية مصر واحتلتها عام 1882، واستمر الحكم الاستعماري للسودان حتى استقلاله عام 1956، اختار السودان عدم الانضمام إلى “الكومنولث” بعد الاستقلال، مثل مصر والعراق وأجزاء أخرى من العالم العربي التي احتلتها بريطانيا، لكن لندن احتفظت معه بمصالحها التجارية والدبلوماسية.

وخلال هذه المدة الطويلة صبغت العلامة البريطانية عديداً من مجالات الحياة السودانية ابتداءً من التعليم وبعض ملامح الزي والتدريب العسكري والمعمار القديم للمنشآت الحكومية والوزارات، والمنشآت الأكاديمية مثل جامعة الخرطوم والأنشطة الثقافية والتجارية حتى الأزياء، فمثلاً يعد الثوب السوداني النسائي “رسالة لندن” من أفخم وأثمن الثياب السودانية.

كل ذلك تقلص في عهد الرئيس السابق عمر البشير بوقوع البلاد تحت طائلة العقوبات الغربية منذ 1996، وقبل ذلك كان الرئيس السابق جعفر النميري في سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي متذبذباً بين الشرق متمثلاً في الاتحاد السوفياتي، والغرب في الولايات المتحدة.

وساءت العلاقات بين بريطانيا والسودان، وبدت خلال التسعينيات وكأنها ظل للسياسة الخارجية الأميركية، لا سيما عند قبولها بحزمة العقوبات السياسية والاقتصادية المفروضة على السودان، وبعد ذلك أظهرت نوعاً من التوازن بين المحافظة على علاقاتها مع مستعمرتها السابقة، والامتثال لسياسة واشنطن، فكان هذا الموقف مؤثراً على الولايات المتحدة التي كانت منحازة لجوبا.

ودعمت المملكة المتحدة، كعضو في “الترويكا”، إلى جانب الولايات المتحدة والنرويج، التوسط في المحادثات التي أدت إلى اتفاق السلام الشامل “نيفاشا” عام 2005 وإنهاء الحرب الأهلية في جنوب السودان ومهدت الطريق لانفصاله عام 2011.

حاولت بريطانيا الحفاظ على استقرار السودان في أعقاب الانفصال وأخمدت التوترات التي أعقبته، وكانت المانح الرئيس للجنة التنفيذ رفيعة المستوى التابعة للاتحاد الأفريقي في السودان، وساعدت في تنظيم التدريب لمسؤولي الأمن، وقدمت المساعدات الإنسانية، بل وأعارت ملحقاً لوزارة الدفاع مستشاراً عسكرياً.

تعليق المساعدات

شاركت بريطانيا في دعم انتقال السودان إلى حكومة مدنية منذ عام 2019، واقترحت لندن في المراجعة المتكاملة للأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية عام 2021 أن شرق أفريقيا ومن ضمنها السودان هي منطقة يمكن أن تزيد من مشاركتها فيها، إذ دفعت بأجندة “بريطانيا العالمية” بعد مغادرة الاتحاد الأوروبي إضافة إلى تضاؤل نفوذها، إذ أصبحت لاعباً أضعف داخل الكتلة الغربية، وأقل مشاركة في الأزمات وتقديم المساعدات.

تزامن ذلك مع دفع بريطانيا بقوة لضمان منح الحكم المدني والديمقراطي فرصة في أعقاب إطاحة البشير، فزار وزير الخارجية البريطاني حينذاك دومينيك راب السودان في يناير (كانون الثاني) 2021 لإظهار دعمه لرئيس الوزراء عبدالله حمدوك.

بعدالثورة التصحيحية اتي قام بها البرهان علقت بريطانيا بعض مساعداتها للسودان، وكان دعمها قد بلغ عام 2021، نحو 167 مليون دولار بما في ذلك 53 مليون دولار لبرنامج دعم الأسر في السودان، أعلن عنه وزير الخارجية دومينيك راب لتزويد 1.6 مليون شخص بالدعم المالي المباشر أثناء تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الحيوية، وأشارت بريطانيا إلى نيتها بتقديم قرض مرحلي بقيمة 440 مليون دولار لتسوية متأخرات السودان المستحقة لبنك التنمية الأفريقي.

حاجات عاجلة

في مايو (أيار) 2023 أعلنت الحكومة البريطانية عن 7 ملايين دولار مساعدات في تلبية “الحاجات العاجلة لأولئك الفارين من العنف”. وقالت وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث والتنمية إن “المملكة المتحدة أسهمت بأكثر من 330 مليون دولار مساعدات إنسانية في السنوات الخمس الماضية”.

ولكن المساعدات انخفضت، بسبب التغييرات الإدارية التي أثرت في قدرات بريطانيا باندماج وزارة التنمية الدولية مع وزارة الخارجية والكومنولث عام 2020، وأكد ذلك أن عديداً من التقارير الصادرة عن مسؤولين سابقين في وزارة التنمية الدولية بأن عمل التنمية البريطاني قد تراجعت أهميته منذ الاندماج، مما أثر في فعالية لندن في مجال كانت متفوقة فيه.

قدمت المملكة المتحدة 50 مليون دولار مساعدات في السنة المالية (2023-2024)، ووعدت بزيادته إلى 118 مليون دولار خلال الفترة (2024-2025)، وتعهدت حكومة حزب “العمال” الجديدة تقديم 19 مليون دولار إضافية من المساعدات للسودان وجنوب السودان وتشاد في السنة المالية الحالية لدعم الأشخاص الضعفاء الذين أجبروا على الفرار من العنف والبحث عن الأمان.

وذكرت الحكومة أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع المساعدات الإنمائية الرسمية للمملكة المتحدة للسودان إلى 129 مليون دولار في هذه السنة المالية، “معظمها مساعدات إنسانية حيوية”، كما ترفع حزمة المساعدات إجمالي إنفاق المملكة المتحدة على الدول الثلاث السودان وجنوب السودان وتشاد إلى أكثر من 293 مليون دولار في هذه السنة المالية.

عوامل الانسحاب

لعبت بريطانيا دوراً بارزاً في المفاوضات بين المكونين المدني والعسكري واجتمعت ضمن “الرباعية الدولية” للتوصل إلى اتفاق إطارية في ديسمبر (كانون الأول) 2022، إذ شهدت موافقة الجانبين على التحول الديمقراطي، ومع بدء القتال بين قوات الجيش وقوات “الدعم السريع” في أبريل (نيسان) 2023، تمكن المسؤولون البريطانيون من استخدام نفوذهم للتفاوض على وقف إطلاق نار موقت مع الفصائل المتحاربة في السودان للسماح بإجلاء البريطانيين، فقد كان الإجلاء يمثل أولوية وركزت عليه بريطانيا، وهي المهمة التي عدها كثر من المواطنين البريطانيين من أصل سوداني أنها لم تقم بها بصورة فعالة، وأنه تمت مساعدة قليل منهم فحسب.

ومع ذلك غابت بريطانيا إلى حد كبير عن الجهود المبذولة للتوسط في المحادثات بين الجيش و”الدعم السريع”. ويرجع انسحابها من الشأن السوداني إلى عوامل عدة أهمها العامل الأول، خفضت بريطانيا مساعداتها إلى السودان، ضمن تخفيض موازنة مساعداتها الخارجية، مما أثر في مستوى فهمها لأزمة السودان، وكان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى تراجع نفوذ بريطانيا في السودان، كما سحبت بريطانيا ملحقها العسكري من الخرطوم احتجاجاً على انقلاب عام 2021، وعليه لم تستشف التطورات السياسية التي أدت إلى الحرب.

أما العامل الثاني، مثل غيرها من القوى الدولية، تأثر موقف بريطانيا بالتطورات الجيوسياسية، إضافة إلى التطورات على الصعيد الداخلي، إذ كانت الحكومة البريطانية منشغلة بقضاياها عن التركيز على الشأن السوداني، وتزامنت مشاركة بريطانيا في السودان من عام 2019 إلى 2021 مع جهود رئيس الوزراء آنذاك بوريس جونسون لإعادة تأسيس المملكة المتحدة على الساحة الدولية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم بعد مجيء ريشي سوناك عام 2022، انخرط في القضايا الداخلية، والاهتمام بالحرب الأوكرانية وتحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي.

استراتيجية “حامل القلم”

تعد بريطانيا “حامل القلم” في شأن السودان في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مما يعني أنها تقود أنشطة المجلس في شأن البلاد، وبناءً على طلبها، ناقش مجلس الأمن أزمة السودان في الـ21 من ديسمبر 2023، وفي الوقت ذاته تعد الولايات المتحدة هي “حامل القلم” لدولة جنوب السودان، وللعلاقات بين السودان وجنوب السودان.

يمكن أن يفسر انتقاد الخارجية السودانية لموقف بريطانيا كونها “الدولة الرائدة” أو “حامل القلم” لأسباب عدة، وهي: الأول أن تركيز عملية صياغة القرارات في أيدي ثلاثة أعضاء فقط من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، بينما يحرم دول المجلس الأخرى.

ومع أن هناك بياناً ينص على أن “أي عضو في مجلس الأمن يجوز له أن يكون حامل قلم”، يهدف جزئياً إلى خلق مزيد من الإمكانات للأعضاء المنتخبين، لكن ينحصر حمل القلم على الأعضاء الثلاثة، ويبدو أنه من غير المرجح أن تتنازل عن دورها في وقت قريب.

وتركز قيادة الجيش على أن تكون هناك فرصة لروسيا أو الصين، مع أن روسيا نادراً ما تتولى مهمة حامل القلم، إلا في حالة المركز الإقليمي للأمم المتحدة للدبلوماسية الوقائية لآسيا الوسطى. أما الصين فكانت “حامل القلم” لفترة وجيزة في الصومال.

والسبب الثاني أن الدولة “حامل القلم” تمنح السيطرة على المفاوضات، مما يمكن أن تستخدم أحياناً لمقاومة التغييرات التي يقترحها أعضاء آخرون في المجلس، أما السبب الثالث، فهو أن هذه الآلية تعني أحياناً أنه إذا اختار “حامل القلم” عدم تناول تطورات معينة، فقد يفشل المجلس في الاستجابة لها.

جهد متضافر

بهذا التحرك الدبلوماسي الأخير يبدو أن بريطانيا تعتزم معالجة تضاؤل نفوذها في السودان، وأن هناك جهداً متضافراً واضحاً للانتظام فيه بعدما يقارب عاماً ونصف العام من استمرار الحرب، لا سيما بعد فوز حزب العمال البريطاني في الانتخابات التشريعية في يونيو الماضي، وتعهد رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر ووزير خارجيته ديفيد لامي إيجاد حل للأزمة.

بتفعيل بريطانيا آلية العقوبات في يوليو (تموز) 2023 على ستة كيانات تجارية مرتبطة بالقوات المسلحة السودانية وقوات “الدعم السريع” لوقف القتال، تكون قد اتخذت موقفاً واضحاً، باتجاه الضغط على طرفي النزاع. فقد ذكرت أن طرفي النزاع يمتلكان ويسيطران على إمبراطوريات تجارية شاسعة توفر لهما الموارد الاقتصادية والأسلحة.

ودعت بريطانيا جميع الدول إلى الامتثال للعقوبات الحالية التي تفرضها الأمم المتحدة، والتي تشمل حظر الأسلحة. وفي وقت دعمت فيه جهود “الهيئة الحكومية الدولية للتنمية” (إيغاد) لجمع الأطراف معاً بقيادة كينيا وجيبوتي، عادت للفت الانتباه إلى أن “إيغاد” محل خلاف بين طرفي الصراع، إذ أعلنت وزارة الخارجية السودانية أنها علقت عضويتها في “إيغاد” احتجاجاً على دعوة محمد حمدان دقلو (حميدتي) لحضور قمة عقدت في أوغندا في يناير 2024.

ومع هذه الخطوة هناك تيار يدعو إلى عدم الإفراط في التفاؤل في شأن لعب بريطانيا دوراً أكبر، ذلك أن ضعف دورها أتى ضمن تراجع القوة النسبية داخل الكتلة الغربية بسبب انشغال القوى العالمية والإقليمية المؤثرة بالحرب في أوكرانيا والصراع في غزة، وبما أن الحربين لم ينتهيا، فإن تحقيق الأهداف المتمثلة في زيادة نفوذ بريطانيا ربما كانت غير واقعية.