عبد الله محمد رحيل الشجن

تلاوين
عبد اللطيف مجتبى
(شغل القليب بالشوق على زولاً بحن) هكذا شغلنا – ردحاً من الزمان – الفنان عبد الله محمد، ذلك الاسم الذي يبدو اسماً عادياً ومعتاداً سماعه ؛ فكثير من الأسماء ما عُبِّد منها وحُمِّد في محيطه إلا أنه بفنه ورقة أدائه جعل منه علماً يشير إليه هو فقط اسم دَوَنه في خواطرنا عذباً صافياً كالماء الذي لا تشوبه شائبة. بلا كنية أو إشارات لعرقية أو مناطقية فجاء باسمه يحمله بالعذوبة و يغسلنا بالحنين والشوق والمحبة “عبد الله محمد” هكذا لا يخطئه خاطر ولا يغفل عنه وجد وإلتياع، فهو حاضر عند لحظات الفراق أو الجفاء أو الشوق وكل محركات تشغل القلب وتفيض بها المآقي وتُشَدُّ بها الزاومل إلى حيث تلك المكامن النائية التي تكلس بها غبار السنين والغربة وألزمها طول الأنين ملزم الصمت.
عبد الله محمد حالة فنية جمالية معقدة تستعصي على الحروف والكلمات فلا تكاد تتبين من أي ينبوع يترقرق وكيف يسيل فينا فاتحاً قنوات الحنين مؤججاً أشواقنا يفتحها باباً باباًعلى كل مصاريع الحنين، مهدهداً حينا يأخذنا إلى تلك العوالم الحالمة بصوته الذي غزله في الوجدان مثل أغنيات المهد والطفولة التي طالما تثير فينا الإحساس بالأمن والأمان ويشعرنا بأن (الدنيا ما زالت بخير) كما يقول الراحل عمر الدوش حتى أصبح صوت عبد الله محمد علامة بارزة تحملنا إلى عوالم الأمومة والدفء ،الأمن ،السلام و السلوى .
عبد الله محمد صوت طليق جاب بخصوصيته كل جغرافيا المليون ميل مربع فراق لإنسان القرى والأرياف النائية و حضرها دانيها وقاصيها ، وهذه سمة قل أن توجد في فنان من جيله فمن صوته يتراءى لك – في ملمح من ملامحه – أصوات أهلنا بالجنوب فكأني به يتغني بآلة “الكوندي” متمشياً في تلك الغابات الشائكة المطيرة بالألفة والخضرة وندى الروح . ولكأنه يتمشى عازفاً على الربابة مع إدريس إبراهيم في الشمال ومع أدروب في الشرق ، ويردد مع إبراهيم موسى أبا في الغرب من كلمات الشاعر بشرى سليمان (أعز التوب وكت ينشال ويتفرَّ) بِحسه وإيقاعه ونغمه المختلف تجربةً ، والمؤتلف محبةً في التوب ومعزته .
في صوت عبد الله محمد مزمار يطرب له الحداة الرحالة من الأبالة والبقارة والزراع والصناع ، شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً فيحدو بهم (الشوق على زولاً بحن ) إلى حيث (رضوة البهم البتضوي رشومو) فما هتفت حنجرته الذهبية بأغنية (الحنين البي ليه ما قدره ) حتى فتح باباً لكل أسئلة الوجود المشروعة فيعتصر القلب ويفري بأحاسيسه الجائشة صحارى الوحشة وبراري اللوعة وأمواج أنهار الوجد الجارفة.
عبد الله محمد تغيرت ملامح فن الغناء الشعبي بعد دخوله الساحة الفنية في النصف الأول من الستينيات من القرن الماضي فانتقل بها من الجغرافيا المحدودة إلى الحنين المطلق فلم يعد لتلك التجربة الموسومة ب”الفن الشعبي” ذات الملمح الثقافي – من حيث موضوعة الفن الشعبي – والذي تعود جذوره إلى الشمال من حيث المظهر والجوهر . والخارج كذلك من عباءة ما عُرف بفن “الحقيبة” فقاد بحسه الفني واختياراته للنصوص الجديدة ذات الطابع الحداثي التي ركزت على موضوعة العاطفة و الشوق والحنين تجربةً خاليةً من الوصف الحسي الذي اتسمت به أغنية الحقيبة على سبيل المثال . فكأنما أراد أن يشير إلى مساحات أرحب تليق برقعة هذه البلاد الشاسعة ومزاج إنسانها المترامي الأطراف.
موضوعة الحنين تبدو هي السمة الأبرز في تجربة عبد الله محمد فغالبية أغانيه عبرت عن الحنين سؤالاً : (الحنين البَيَّ ليه ما قدَّرُه ؟العمر من وين بشتروه؟) وتقريراً : (شغل القليب بالشوق على زولاً بحن ) كما تفجر من ذات الحنين موضوع الهوى في: ( كفاية عليَّ أعيش بي هواك بدون ما انت تشعر بيَّ).
هكذا قدم عبد الله محمد تجربة فنية واضحة الملامح والأثر وخلد عبر صوته وإيقاعاته و ألحانه سيرة للحنين و الهوى العذري في رقة وعذوبة ومحبة مشى بها قلبُه بين زملائه مؤسساً لدار فلاح ولكيان فن الغناء الشعبي الذي كادت الأغنية الحديثة أن تمحو أثره إلا أنه والكوكبة من الرواد استطاعوا أن يحجزوا مقعدا خالداً في الوجدان السوداني عبر هذه الآلات الإيقاعية البسيطة و الكورس و أصواتهم الندية .
رحل عنا الفنان عبد الله محمد في الأيام القليلة الماضية فجأة إثر حادث مروري أليم أفقدنا كرواناً قل أن يجود الزمان بمثله؛ رقةً وأدباً وتهذيباً وفناً وعطاءاً ومساندةً لزملائه دون مَنٍّ أو أذى.. ألا رحم الله الفنان الكبير عبد الله محمد رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين