آخر الأخبار

دور السودان في الأمن الغذائي العربي… سلة الغذاء المنسية

شئ للوطن

م.صلاح غريبة

 

*في كل عام، يحل اليوم العالمي للغذاء في 16 أكتوبر، وهو مناسبة تتجاوز مجرد الاحتفال لتصبح نداءً عالميًا عاجلاً للعمل من أجل القضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي للجميع. هذا العام، تكتسب هذه المناسبة أهمية مضاعفة، خاصة بالنظر إلى الدول التي تعاني من صراعات داخلية أثرت بعمق على قدرتها على إطعام نفسها والعالم المحيط بها. ومن بين هذه الدول، يبرز السودان كدراسة حالة مأساوية وملحة، نظرًا لدوره التاريخي المحوري في الأمن الغذائي العربي وتدهور هذا الدور بفعل الحرب.

*لطالما عُرف السودان بـ (سلة غذاء العرب) و (مخزن الغلال) بفضل أراضيه الشاسعة الصالحة للزراعة، وموارده المائية الغنية، ممثلة في نهر النيل وروافده، ومناخه المتنوع الذي يسمح بإنتاج محاصيل متعددة كالقمح، الذرة، الدخن، السمسم، وزهرة الشمس، بالإضافة إلى الثروة الحيوانية الهائلة.

*لقد كان الإنتاج الزراعي والحيواني السوداني يشكّل خط دفاع استراتيجي للأمن الغذائي للعديد من الدول العربية، خاصة في الخليج وشمال إفريقيا. لم يكن الدور مقتصرًا على تصدير المواد الغذائية الخام فحسب، بل كان يُنظر إليه كقاعدة استثمارية زراعية واسعة قادرة على تلبية الاحتياجات المتزايدة للمنطقة. أي اضطراب في هذه السلة، كما يحدث الآن، لا يهدد ملايين السودانيين فحسب، بل يرسل موجات صدمة إلى استقرار أسعار الغذاء وتوافره في المنطقة بأكملها.

*لقد أتت الحرب الدائرة في السودان، وما تبعها من عنف واقتتال، لتنسف كل مقومات الأمن الغذائي تقريبًا. أدت تداعيات الصراع إلى نزوح المزارعين والرعاة، فتسببت الاشتباكات في نزوح أكثر من 7 ملايين شخص، وغالبية هؤلاء من المناطق الريفية التي تُعتبر شريان الإنتاج الزراعي والحيواني. هذا أدى إلى ترك الأراضي دون زراعة وتوقف عمليات الحصاد أو الرعاية الحيوانية.

*تدمير البنية التحتية، فتعرّضت أنظمة الري، ومخازن الحبوب، ومصانع الأغذية، ومستودعات المدخلات الزراعية (بذور وأسمدة ومبيدات) للتدمير والنهب، مما يعطّل دورات الإنتاج القادمة، وتعطلت حركة النقل بين الولايات، مما منع وصول الإمدادات الغذائية وانهيار سلاسل الإمداد والمساعدات الإنسانية إلى المحتاجين، وقيّد وصول المنتجات الزراعية إلى الأسواق، وأدى الانهيار الاقتصادي إلى ارتفاع فاحش في أسعار الغذاء والوقود، مما جعل الغذاء بعيد المنال عن الطبقات الفقيرة والمتوسطة، حتى عندما يكون متوفرًا بجانب تدهور قيمة العملة.

*باختصار، حولت الحرب السودان من (سلة غذاء) محتملة إلى واحدة من أسوأ أزمات الجوع في العالم، حيث بات أكثر من ثلث السكان يعانون من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد.

*إنقاذ الأمن الغذائي في السودان يتطلب تحركًا سريعًا ومزدوجًا إنساني عاجل و تنموي استراتيجي طويل الأمد، بالإغاثة العاجلة والتحرك الإنساني، مع وقف إطلاق النار وحماية المزارعين، فلا يمكن تحقيق الأمن الغذائي دون وقف فوري للأعمال العدائية وحماية المزارعين والسماح بوصولهم إلى حقولهم ومواشيهم دون خوف، مع تأمين ممرات إنسانية زراعية بإنشاء ممرات آمنة لإيصال المدخلات الزراعية الأساسية (البذور والأسمدة) إلى مناطق الإنتاج الرئيسية قبل مواسم الزراعة، وتأمين وصول المساعدات الغذائية للمناطق الأكثر تضررًا، ودعم سبل العيش بتقديم الدعم النقدي والغذائي المباشر للنازحين والأسر المستضيفة لتمكينهم من شراء الغذاء والحفاظ على الحد الأدنى من القدرة الشرائية.

*الاستثمار الاستراتيجي وإعادة البناء لإعادة إحياء المشاريع الكبرى فيجب أن يكون هناك تركيز على إعادة تأهيل المشاريع الزراعية الكبرى، مثل مشروع الجزيرة، كقاطرة للاقتصاد وتنويع الإنتاج لتشجيع المزارعين على تنويع محاصيلهم والتحول نحو الزراعة الذكية والمقاومة للجفاف لتعزيز المرونة في مواجهة التغيرات المناخية.

*الشراكة العربية والدولية، فيجب على الدول العربية المجاورة والمنظمات الدولية (مثل الفاو وبرنامج الغذاء العالمي) تفعيل التزامها الاستثماري طويل الأمد في القطاع الزراعي السوداني، لكن هذه المرة بشفافية أكبر وحوكمة لضمان وصول الدعم للمنتجين الفعليين. يجب أن يتم تحويل الدعم من مجرد إغاثة إلى استثمار في الإنتاج.

*إن اليوم العالمي للغذاء هذا العام يجب أن يكون نقطة تحول للاعتراف بأن استقرار السودان هو مفتاح استقرار الأمن الغذائي الإقليمي. الأزمة الحالية ليست مجرد مشكلة سودانية، بل هي إنذار يهدد استقرار المنطقة كلها. يجب أن نرى في حنطة النيل ليس مجرد غلال، بل بصيص أمل يمكن، بالجهد المشترك، أن يُزهر من جديد ليطعم الأمة العربية.