معركة استعادة السيادة: قراءة في خطاب البرهان وتحولات الميدان
د. ميمونة سعيد ادم ابو رقاب
جاء خطاب الفريق أول عبد الفتاح البرهان في توقيت حاسم — لحظة توازُنٍ بين زخم ميداني يسعى الجيش لاستثماره وسياسة دولية متقلبة. لقد اختار البرهان لغة لا تحتمل الالتباس: تقدم عسكري مستمر، رفض تام لأي وساطة تُحْتَمَل أنها لا تحمي الدولة، ونزع شبهات الحياد عن لاعبين إقليميين متهمين بدعم التمرد. هذه الرسائل ليست مجرد تصريحات بل سياسة مُرسّخة تهدف إلى فرض معادلات جديدة على الطاولة الدولية والإقليمية.
أولاً: الخطاب يمثل قراراً صريحاً بتوحيد الداخل خلف خيار الحسم. البرهان لم يوجّه دعوة للتوافق المعتاد أو للتسويف—بل أغلَق الباب أمام أي وقف لإطلاق النار أو تسويات مرحلية قد تُكبّل القوات المسلحة في لحظة تستعيد فيها المبادرة. هذا الموقف يعكس حساباً إستراتيجياً: إن أي توقّف الآن سيمنح الطرف المقابل فرصة لإعادة التموضع، بينما استمرار الضربات يعظّم فرصة تحجيم قوّة الدعم الخارجي للتمرد.
ثانياً: نزع الشرعية عن الدور الإماراتي داخل الرباعية جاء كخطوة متعمدة لإعادة تشكيل خارطة الوساطات. اتهام البرهان للإمارات بأنها داعم أساسي للمتمردين يهدف عملياً إلى تحييد تأثير أبوظبي على مآلات أي مخطط تفاوضي وشرح لماذا لا يمكن قبول وساطة يُشتبه في عدم حيادها. بهذا التوصيف، يصبح القلق من “وساطة مفخخة” ذريعة سياسية لعرقلة أي مبادرة دولية لا تضمن انسحاب القوى المتمردة من المدن والأحياء السكانية أولاً.
ثالثاً: الخطاب يستثمر في تحول المزاج الدولي ويحوّله إلى أداة داخلية. بإعلانه رفض الرباعية إذا كانت الإمارات جزءاً منها، يسعى البرهان إلى استغلال انقسام المواقف الدولية لصالح رواية الحكومة: أن هناك فاعلاً إقليمياً يُغذّي التمرد، وأن الحلّ لا يكون عبر تسويات تُبقي على بنية القوة المُعدّلة على الأرض. هذا استثمار ذكي: إذ يربط بين النجاح الميداني وشرعية الموقف السياسي، ما يمنح القيادة هامش ضغط أوسع على الوسطاء.
من المنظور التكتيكي والسياسي، خطاب البرهان يضع خريطة طريق واضحة: (1) استمرار العمليات حتى استعادة الميدان، (2) شروط واضحة للقبول بأي وساطة (انسحاب المتمردين من المدنيين والمناطق الحيوية)، و(3) هجوم دبلوماسي لاستئصال أي شرعية لجهات فاعلة يُشتبه في دعمها للتمرد. هذه خريطة صلبة تُظهر أن اللحظة ليست لحظة تفاوض هشة، بل لحظة تحدّد شكل السيادة وترتيب الأولويات الوطنية.
الخطاب ليس مجرد بلاغ عسكري بل وثيقة سياسات متكاملة تُحوّل التقدم الميداني إلى أداة ضغط دبلوماسي وسياسي لقطع أي طريق يفضي إلى تسوية تُكرّس وجود المتمردين. وهكذا يثمّن البرهان انتصار الميدان عبر سياسة إقليمية جديدة تهدف إلى استعادة ما يعتبره الجيش “سيادة دولة” بلا تنازلات.
د. ميمونة سعيد ادم ابو رقاب
رئيس هيئة تحرير مجلة السودان