كوارث السيول.. جهاز الدولة واستمراء المآسي

 

علي عسكوري  

 

*ضربت البلاد في الاسبوعين الماضيين موجة من الأمطار الغزيرة تسببت في دمار واسع في العديد من المناطق، في الشرق والشمال والوسط وغيرهم.
*هذه ليست أول مرة يقع الناس ضحايا للسيول الجارفة، و يمكن القول إن هذه الكارثة اصبحت تتكرر بصورة شبه سنوية اعتمادا على غزارة الامطار.
* من رأيي أن الكارثة الحقيقية ليست السيول ولكنها في أجهزة الدولة المناط بها التخطيط السليم للمساكن والمنشآت، فلو كانت هذه الأجهزة تقوم بواجباتها لما تكررت المأساة.

*منذ عقد الستينات من القرن الماضي ونحن أطفال صغار بالكاد تعلمنا القراءة والكتابة، ظللنا نقرأ أن نهر القاش يهدد مدينة كسلا أو يطمر أجزاء منها وظل هذا الأمر تقريبا يحدث كل عام ومع كسلا منطقة طوكر التي نكبت مرة أخرى هذه الأيام ، والخريف القادم سنقرأ ذات القصة déjà vu.

*ليست مناطق الشمالية ونهر النيل بأفضل حال من كسلا مع القاش، فكل عام نشاهد المآسي التي تحدثها السيول.
*بعد وقوع الكارثة يتدافع القوم من الخيرين ومعهم أجهزة الدولة لتوفير بعض الخيام والمعينات للضحايا ثم ينصرفون ويتم تناسي الكارثة تماما، وتنصرف أغلب أجهزة الدولة لما تجيده من إهدار للموارد في قضايا فارغة لاتهم الناس في شيء. ثم ما إن يحل شهر يونيو حتى يتذكر القوم أن الخريف قد بدأ، وأنهم غير مستعدين لمجابهة أي كارثة، فيلوذون بالصمت ينتظرون رحمة السماء. وما ان تقع الكارثة حتى تصحى أجهزة الدولة من صمتها لتتعالى النداءات للعالم بطلب الإغاثة التى يذهب أغلبها لجيوب البعض. لقد اصبحت هذه الدائرة الشريرة مرض عضال يفتك بالدولة والمجتمع ولا مجيب.
*ما يحيرني ويصدمني هو لماذا لا تعتبر و تستقي اجهزة الدولة الدروس من كارثة واحدة، ثم تنهض لإعادة تخطيط القرى وأمر سكانها بالخروج من مجاري السيول وبناء الأرصفة والحمايات للمواقع الجديدة. هذا من صميم عمل المحليات التي يتوجب عليها مراجعة مواقع القرى التابعة لها والتأكد من أنها لا تقع في مجاري السيول، واي قرية يحتمل ان يجرفها سيل يتم تخطيط جديد لها وبناء الارصفة والردميات الضرورية لحمايتها. هل هذا أمر صعب. سلطة الدولة توفر لها إجبار المواطنين على تغيير مواقع مساكنهم للمناطق الآمنة. لكننا قوم جبلنا على استمراء المآسي ورفض الحلول الجذرية.

*لم تعد دراسة طبوغرافيا مجاري السيول أمرا مثل علوم الصواريخ يحتاج إلى عباقرة في الفيزياء والرياضيات. في الواقع أبسط المواطنين يعلم ما إن كانت قريتهم تقع في مجرى سيل ام لا.. ولو كان المحليات قد بدأت في تنفيذ مشروعات لسلامة القرى قبل عقد أو عقدين لما تكررت هذه الكوارث، لكنه عدم الاكتراث بحياة المواطنين والاستهتار المفضى للفجيعة وعدم المحاسبة عنه.

*الآن يمكن للسلطات القيام بمسح طبوغرافي لكل القرى وتحديد ما يحتاج لترحيل لموقع آمن والعمل مع المواطنين لتشييد منازلهم ومواقع الخدمات فيه. لو بدأنا تنفيذ هذا المشروع اليوم ستنتهي كوارث السيول في فترة خمسة إلى عشرة أعوام. ستختفي نهائيا وستكون كل قرانا أمنة.
*إنه لأمر مؤسف ومخجل ومذل أن نتسول العالم كل خريف لاغاثة ضحايا السيول. هنالك حلول متاحة لتجنب تكرار هذه المأساة، ولكن أغلب ضباط المحليات بلا قدرات ولا خيال ولا افكار بل لا تهمهم معاناة المواطنين، إذ لو كانت تهمهم لوعوا الدرس من أول كارثة ونهضوا لتدارك بقية القرى ومراجعة مواقعها وسلامتها.
*أما القاش وطوكر أعتقد أن البعض في أجهزة الدولة يجهز من الآن لطلب الإغاثة الخريف القادم، بدلا من وضع الحلول الجذرية للمشكلة. لو بنوا مترا واحدا من الصخور والأرصفة كل عام لكانت المشكلة قد حلت، لكنهم لا يفعلون لشىء في نفس يعقوب!
*أعتقد علينا الاعتراف أن أجهزة الدولة الحالية خربة ومهترئة وعاجزة وبلا قدرات من أبسط ضابط إداري في المحلية لرئيس الوزراء المكلف (بالمناسبة اسمو منو!) وأن عملا ضخم لاصلاح جهاز الدولة مطلوب عاجلا، وهذا تحد يعادل تحد سحق الجنجويد، إذ بدون إصلاح جهاز الدولة ورفدة بأصحاب القدرات و استئصال شأفة الفساد المستشري، تتآكل الدولة وتنهار، السيول ليست أقل خطرا على المواطنين من دانات المليشيا.
*هل تعلم اجهزة الدولة كم عدد ضحايا السيول هذا العام؟ هل اصدر اي ضابط إداري تقريرا مفصلا عن الضحايا والخسائر المادية في محليته؟! وطالما لم يفعلوا ذلك ما هو مبرر وجودهم ابتداء! كل ما يفعلونه هو بيع الأراضي ورخص (الدكاكين والكافتريات)!

هذه الأرض لنا