أبو الدرداق يهاجر

حكايات ممنوعة_الشيخ يوسف الحسن

 

منذ اتفاق الجنتلمان بين (أبو الدرداق المكسَّر مع القمرا) على الزواج بشرط أن ينظف العريس الأرض من أوساخ البني آدم ويعدها بساطاً نظيفاً لحفل الزواج، منذ ذلك الوقت لم تكل عزيمة السيد أبو الدرداق، إلا هذا اليوم (الإثنين اليوم الكم كدة من شهر شوال والكم كدة برضو من شهر أغسطس) حيث أحس الرجل بدبرسة لأول مرَّة منذ قرون وأنه مخنوق داير يبكي يبكي لاحدي ما يتفشَّى، وبينه وبين نفسه اقتنع أبو الدرداق قائلاً (في السودان دة عرس لي مافي، يا ألحق اللجوء السياسي في أوروبا واللا أسيب الموضوع دة).

وبهذا القرار الحاسم أحس (أنو بقى خفيف)، فمشى دون اهتمام بأطنان القاذورات التي تملأ وجه الشوارع، وذهب ناحية كشك حاجة باردة في الناصية كان دائماً يشغل الأغاني العاطفية الحزينة، وفتَّش بقرب الكشك عن سنتمتر نظيف بعيداً عن الأوساخ السابحة في مياه الأمطار فلم يجده، ولأن المطرة كانت قد توقفت قبل قليل فقد اختار أن يتكئ قرب شارع الزلط الذي نظفته الأمطار، وكان الراحل مصطفى سيد أحمد يغني (ما كُنَّا ما كُنَّا) فيتذكر القمر ويطَنْطِنْ (هسة عليك الله دة شرط دة كان أحسن منو تقول عايزة أقرا).

ومن مكانه يتابع بعض الشماسة وهم يعبثون بمكونات برميل أوساخ، وصوت مصطفى يتناهى إليه فيغرقه في دموع وبكاء: “ما كُنَّا وكت الليل يضيع، تشرق نجومو وتنكتم.. ويطل شعاع يكشف قناع، والظلمة ترحل تنهزم.. وجفونا من طول السهر، تلبس وشاح فرقة والم.. نستبشر اليوم الجديد، ونقول تعود انت العشم”، ثم يرفع رأسه نحو السماء فيأتيه صوتاً حزيناً منها “كيف العشم وكتين يموت، والغُصَّة تطعن فى الحَلِقْ.. كيف الحنين وكتين يهز، لى زول بعيد ما بتلَحِقْ.. كيف الرجوع لي زول قنع، شايل رماد قلبـو الحِرِقْ”.

فيقول بصوت مسموع وهو يتابع عربة مسرعة (تفجخ في الطين) وسرب ذباب عظيم يفر من أمامها ويطير على رأسه حتى يحجب عنه الرؤية “أوروبا قالوا نضيفة أول ما أوصل هناك دردقة دردقتين وعمك طوالي يعرِّس القمرا، أكان ما ناس العالم التالت ديل يكونوا بي هجراتهم الكتيرة دي طينوا لينا الواطة هناك الله لا كسبهم، انت عارف أنا أمش لي بلد لسة ما خلوهم يخشوهوا، لكن ديل زي نملهم وضبانهم دة أي حتة بكون وصلوها، المهم نحاول قِدرنا قِدرنا، ما قِدرنا ما داير عرس وحِتَّة وسخ بزِحَّها من الدرب مافي”.

وفجأة أبو الدرداق سمع تاااخ عاين حولو لقى الدنيا كلها نضيفة تلمع، وبي عينو شاف الشوارع يغسلوا فيها ويرشوها بي معطرات نفَّاذة وجميلة، وأكتر من كدة الجو كان منعش شديد وفي طيارات بترش العطور في الهوا، قام يفتش لي كشك الليمون الكان راقد قريب منو مافي كشك ولا أي أكشاك، كانت هناك مباني شاهقة وجميلة وناطحات سحاب وجسور طائرة وشوارع عريضة قعد يتلفت شمال يمين ما عرف زاتو يمشي وين وأكتر من كدة لم ير من أصدقائه وأعدائه من الحشرات أحدا يدب لا نمل لا ضبان لا صرصار.

وبدا خائفاً مرتعداً فربما كان ضمن (حكاية النضافة الجات هُبْ كدة دي)، مبيدات رشوها فأدت إلى انقراض جميع بني جلدته من الحشرات ويسأل نفسه “طيب يخلوني أنا ليه معقول مبيداتهم ما قدرت علي” ومن مكان إلى مكان يتلفت باحثاً عن صفقة شدرة ساقطة على الأرض يأوي نفسه داخلها فلم يجدها، ويتملكه هلع شديد من أثر الأضواء المحيطة به، ويتذكَّر حكاية زواجه التي كان قد عزم على تركها، طالما ظل مواطناً بالعالم التالت، ويصيح “أها الواطة ونضفت تاني القمرا بتكون حيلتها شنو”؟ ويرفع رأسه إلى السماء.

فيغمض عيونه من شدة الأضواء الكاشفة ويسأل “هسة يعرفوها كيف عشان يحددوا معاها مواعيد العرس”، وفجأة (السما يتقد موية فوق راسو غمض عيونو وجرى جاي جاي)، وحين نظر حوله إذا به في مكانه ذلك والأوساخ تحيط به والضبان، فيتسلل مرهقاً من داخل كومة بقايا قِشِرْ وتِفِلْ ليمون وبرتكان كان قد قذف بها فوق رأسه بتاع الكشك وذهبت به نحو غيبوبة جميلة قادته للتجهيز للعرس، ثم بتاع الكشك نفسه يعيده للحياة حين صب جردل موية وسخانة كان يغسل فيها الكبابي على كوم التِفل، فتمطى أبو الدرداق.

و(مَرَقْ يسأل من درب التهريب)!!