قراءة في علاماتيّة أغنيات أبو عركي البخيت(٢-٤)

أوسمة المقاومة : _ دكتور فضل الله احمد عبدالله 

 

*الأغنية عند أبوعركي علاماتها الكبرى هي الإنسان ، تبدأ بالإنسان حضورا وغيابا ً، متحققاً وضمنياً ، المرئي وظلاله ، وكما بدأت به ، تنتهي كذلك عنده .
وتلك لعمري خاصية الفنان ، الذي عرف فلزم عرفانيته .

*وبهذا يمكن القول أن أبو عركي البخيت هو أبرز من يمثل ذلك النموذج للفنان صاحب الرؤية في الحياة ، والموقف الكلي في وجوده الإنساني .

*ممتثلا حدود الفن ووظيفته كما جاء في تعريفات الفلاسفة ونقاد الفنون ، فالفن عند نيتشه مثلاً مهمته تحرير الحياة من كل القوى الميتافيزيقية التي دفعت الفن للانعزال عن الواقع والانغماس في التجرد والتعالي ، وعلى هذا الأساس وجه نيتشه نقده للاتجاهات الجمالية السابقة عليه ، باعتبار ، أنها عملت على عزل الفن عن الحياة .

*فالفن ليس غاية في حد ذاته ، وليس نشاطاً محايداً بل هو منفتح على الحياة ، وخادم لها ، وبتعريف آخر هو الوسيلة أو الطريقة الحاذقة والماهرة على مد خطوط الحياة ورسمها .

*وبهذا المعنى نفسه أسس الفيلسوف دولوز صوره للفن قائلاً : لابد إلا يستشهد الفن بعالم متعالٍ بل بعالمٍ نعيش فيه ، لابد من استخلاص الفن من تكرارات الحياة اليومية .
بحيث يمكن القول أن كليهما جزء من الآخر فالفن جزء من الطبيعة ، والطبيعة يتخللها الفن أن العالم – بحسب دولوز – لا يسير وفق مخطط غائي Teleologigue كما قال فلاسفة العصور الوسطى ، بل هو في النهاية منظومة لحنية بحيث لا نعود نعرف أين هو الفن وأين هي الطبيعة .

*وهذا التداخل يستشعره الفنان أكثر من غيره ، إنه يلتقط لحن الكون محاولاً إبرازه عبر مؤثراته الانفعالية .

*ويقول : لا تكف الحياة عن خلق مثل هذه المناطق حيث تنقلب الأشياء باستمرار ، والفن وحده قادر على بلوغها ويخترقها عبر مشروعه المشارك في الخلق .

*وأن الفنان ينفتح على الوجود أو الحياة ، أو بمعنى أدق يحدث خرقاً في الوجود يمكننا من أن نرى عبره الأشياء من منظور مختلف عما اعتدنا رؤيتها عليه .

*وذهب بيتر هالوارد إلى أن دولوز يتبنى مفهوماً للفن يخرج به من حدود الدائرة الجمالية المتعارف عليها ، ويتحول معه إلى نشاط ميتافيزيقي أكثر منه نشاطاً خاصاً بالفنان وحده فإذا أمكن تجاوز الميتافيزيقا فلا يكون ذلك سوى بواسطة الفن الذي يصوغ ميتافيزيقا جديدة هي أثبات للحياة ، وتبجيلها .

* فالفن يجعل الحياة ممكنة بل وجديرة بأن تعاش إنه خلاص ، خلاص ليس بمعنى التعلق بحقيقة ما متعالية ، وإنما بمعنى تحويل الوجود والحياة إلى مظاهر فنية يكون بموجبها القبيح جميلاً ، والعبث سخرية وضحكاً ، والألم انتشاء ، إنه خلاص أرضي بإثباته لقوة الحياة .

*وبهذا ينظر النقاد والفلاسفة إلى مهمة الفن ، بوصفه وظيفة تتوافق مع وظيفة العلم والفلسفة ، فالعلم والفلسفة ، والفن ، جميعهم يهدفون إلى الانتصار على ظلامية الأشياء والفوضى ، تريدنا الفلسفة والعلم والفن أن نمزق قبة السماء وأن نغوص في السديم ، ولن ننتصر عليه إلا لقاء هذا الثمن .

*فالفن مقاوم للفوضى ، ومقاوم للقوالب السائدة التي تمارس هيمنتها ، ومقاوم للواقع – حسب دولوز ــ وفي الوقت نفسه مقاوم لكل أنواع التعالي والاستبداد والهيمنة .

*أن الفن وفلسفة المقاومة يشتركان في مهمة عسيرة تتجاوز كل شفرات الماضي والحاضر والمستقبل ، لكي يبثا شيئاً لا ولن يتاح لأحد أن يشفره ، يبثاه في جسد جديد ، يمكنه أن يتلقاه ، ويستخلصه جسد يخصنا أو يخص أرضنا .

*وتأتي أهمية أبو عركي البخيت في كونه استطاع وبقدرة خارقة في حشد تلك الخصائص الجوهرية في معاني أغنياته وأداءه الصوتي واللحني.
*فالمقاومة الصلدة من صميم موضوعاته ، تجدها كامنة أو مضمرة أو حتى مفترضة في نسق منظوماته العلاماتية التي يرسلها في إشارات حرة صوب الجمهور للتفاعل معها بفتح أبواب خياله ، لتحدث أثارها في النفوس .

*فقيمة الكلمة عند أبو عركي البخيت تمكن فيما تًحدثه إشارته السيمائية من أثر في نفوس الجمهور وليس أبداً فيما تحمله الكلمات من معان مجتلبة من تجارب سابقة ، أو بتصور مجتلب .