
أن خيرت بين نعيمهم وكفافنا فكفافنا اختار
رهاب.. رهاب
د . محمد خير حسن محمد خير
هذه رسالة الي رئيس مجلس السيادة تبلغه أو لا تبلغه يتوقف الأمر علي مدي انفعاله وانفعال مكتبه بتحسس اوجاع الناس وآلامهم وآمالهم آمل ام يكونوا قد أخذوا امانتها بحقها .. وهي كذلك رسالة الي رئيس مجلس الوزراء وهي اختبار لمدي إمكانية تنزّله من برجه العاجي الوثير الي واقع الناس.
دخلت ككثير من بني وطني الي المحروسة مصر ضمن الملايين الذين هجرتهم الحرب اللعينة وقد دخلت إليها رسميا” بتأشيرة دخول عبر مطار القاهرة، وقد فضلت العودة الي بلادي للمشاركة في اعمارها وبحسي الصحفي تسامعت عن المعاملة التي يجدها السودانيين في الكتيبة المصرية التابعة للقوات المسلحة المتخصصة في ترتيب العودة الطوعية للسودانيين الداخلين بطرق غير رسمية عبر الFly Box.
ولذلك قررت اقتحام هذه التجربة رغم انني دخلت بصورة رسمية ويمكنني العودة بصورة رسمية ميسرة جداً وخالية من اي تعقيدات وصعوبات وآلام نفسية وجسدية.
امتطيت بص من القاهرة متخصص في نقل هذه الشريحة من السودانيين .. أول ما لاحظت عند مدخل الكتيبة الاسلوب الفج الحاد الذي يتحدث به صغار المجندين المصريين في هذه الكتيبة مع ركاب البصات ولا يشغلهم الأمر أن كان بينهم رجل مسن أو مريض أو من حملة الدرجات العلمية الرفيعة فهم عندهم سواء في المعاملة السيئة التي لا تشبه المصريون الذين استقبلوا أبناء وطني واحسنوا وفادتهم الا قليلٌ منهم ممن لا يعلم مساهمات بلادي في مصر علي مر التاريخ.
أول خطوة مزعجة كانت تجريد كل ركاب البصات من تلفوناتهم بعد اغلاقها وبصورة غير انسانية بقولهم لأكثر من 50 راكبا” أن لم تسلموا تلفوناتكم في خمس دقائق فستمكثون في الكتيبة لما بعد العيد ولن يسمح لكم بالسفر ولعلكم تدرون ما يحمله السودانيون المغادرون الي بلادهم من اشواق وما يعانيه بعضهم من ظروف مادية قاهرة فرضت عليه العودة ولذلك حدث هنا تدافع مزل للالتزام بالخمس دقائق.
لم أفهم ما وراء غلق الموبايلات الا بعد المعاملة البغيضة الرديئة التي لاحظتها ولعلهم يخشون توثيق هذه الانتهاكات الجسيمة ورفعها للمنظمات وما سينبني عليها من ادانات اقليمية ودولية، اما عن الوضع في داخل الكتيبة فهي عبارة عن مساحة مسورة بجدر عالية لا يوجد في هذه المساحة لا أسرة ولا عناقريب حتي ولا اجلاس ولا مفارش ولا اي خدمات مياه ولا اي شئ من الخدمات الإنسانية وبها مجموعتين من الحمامات مجموعة في الجهة الغربية جوار البوابة وبها تلاتة حمامات ومجموعة بالجهة الشرقية وبها ثلاثة حمامات لكتيبة يرتادها يوميا” حوالي 24 بص علي الاقل سعة البص نحو 60 راكب وعندما اقتربت منها تيقنت انها لا تصلح للاستخدام البشري ولا الحيواني ولذلك فضلت تقليل الاكل الي ادني مستوي ممكن وتقليل الشرب الي ادني مستوياته حتي لا احتاج إليها وعندما احتجت الي (اخفها) سلكت ما يسلك بعض أهلنا في المناطق النائية والارياف.
هؤلاء الركاب وفي هذه البيئة وهذه الأوضاع يفترشون الارض ويلتحفون السماء .. وبين ارجلهم تسعي الحشرات والهوام .. في العادة تجتهد إدارة الكتيبة في تفويج العائدين خلال 24 ساعة ويتوقف الأمر علي مزاجية من يدير عمليات التفويج ومدي رضاهم عن من نزلوا مضطرين لديهم .. اسلوب حديث المجندين مع السودانيين القادمين الي هذه الكتيبة اسلوب ردئ وسيئ بصورة لم أتصور مستوي بشاعته قبل أن انزل لديهم فهم ومن عجب يعاملونهم وكأنهم نزلاء في احد سجونهم.
صحيح نعلم أن دخولهم لم يكن علي نحو شرعي ورسمي ولكن معظمهم قد تم توفيق أوضاعهم عبر مفوضية الشؤون الإنسانية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة وباتت الحكومة المصرية نفسها تستفيد من المخصصات المالية بالعملة الحرة التي تخصصها المنظمة مقابل كل سوداني مسجل لديها وهذا لعله يفسر التشديد الكبير علي الدخول الرسمي عبر القنصليات والسفارات المصرية في البلدان المختلفة والتراخي الواضح للسماح بدخول اكبر عدد من النازحين عبر التهريب.
لا يوجد كما ذكرت اي خدمات داخل الكتيبة فقط أتوا بوجبة يتيمة قبيل المساء عبارة عن فاصوليا ومعكرونة لكل هذا العدد من الناس .. والسودانيون تأخذهم عزتهم بانفسهم ولا يطلبون الا تفويجهم الي بلادهم ولا ينشغلون بخدماتهم هذه ولا يحرصون عليها.
أكثر ما آلمني في هذه الرحلة حضور تاتشرين الي تجمع السودانين في الكَرَفانْينْ الموجودين في هذه الكتيبة ذات السُقف الزنكية التي تكاد تشتعل أثناء النهار وهم يستغلون بها من وهج الشمس في هذا الحر القائظ .. جاءت التاتشرين الي تجمع السودانيين وطلب منهم بأسلوب لا أخلاقي ومستفز بالتجمع لنظافة النفايات في كل الساحة الضخمة حول الكرفانين بل وداخل الكرفانين كذلك.. صحيح ان هذه الكميات الضخمة من النفايات بمختلف أنواعها من صنع السودانيين انفسهم … بيد ان كل ( نزيل ) قصدي كل مسافر يدفع للكتيبة 250 جنيه مصري وبالتالي كل بص يدفع للكتيبة نحو 12500 جنيه مصري ويدخل الي الكتيبة نحو 24 بص يوميا ويمكن اجمال ذلك علي مستوي الشهر وهي إيرادات محترمة الا يمكن التفكير في الحفاظ علي كرامة ( النزلاء ) قصدي المسافرين المغلوب علي أمرهم وتكليف عمالة مصرية بأجر لنظافة المكان حتي لو تم زيادة الرسوم .. ومن عجب اسلوب المخاطبة لحمل المسافرين علي الانصياع لامر النظافة إن كان يشبه بعض المصريين هو بالقطع لا يشبهنا كسودانيين ولا يشبه اعتدادنا بأنفسنا ولكننا صبرنا علي الاذي حرصا” علي الوصول الي بلادنا ونحن لا تحملنا الا اشواقنا .. ولكني هنا اشيد بشباب بلادي الذين اظهروا تكاتف ورحمة ومودة بكبارهم وتوقير لصغارهم ونسائهم وبناتهم فلم يقبلوا تعرضهم لهذا الاذي فتسابقوا للقيام بكل هذه الأعمال المهينة عنهم بل وتباروا في دفع رسوم الكتيبة لمن لم يستطيعوا الدفع بل امتد تكافلهم وشهدت ذلك بام عيني حتي في حلفا وعطبرة لمن لم يستطيعوا قطع تذاكرهم لاكمال رحلاتهم اما نتاج تعرضهم للاحتيال من بعض وكالات السفر السودانية في القاهرة والتي تحجز للكثيرين الي ام رمان وبعض المدن الاخري ويتركون في منتصف الرحلة دون أحكام التنسيق مع مناديبهم في تلك المدن اما بدافع الاحتيال أو نتاج ضعف مستوي التنظيم والتنسيق.. ولذلك أود أن تصل رسالتي هذه الي السيد رئيس مجلس السيادة ليرفع الظلم عن أهله ويعز مواطني بلاده إن كان هناك حرص علي عزة وعلي كرامة مواطن انهكته الحرب واقعده النزوح واثقلت قلبه الاشواق والحنين الي بلاده.
وهي رسالة واختبار الي السيد رئيس مجلس الوزراء لنعلم مدي اعتنائه بكرامة شعبه الذي ينتظر منه الكثير وفي مقدمتها عزته وكرامته … فهل من متلقي وهل من مستمع وإن لم يكن ذاك كذاك فلنا الله وسنعتبركم جزء من الابتلاءات التي قدرها الله علينا ونسأله الصبر وحسن الجزاء ولطف الخواتيم.