قراءة في علاماتيّة أغنيات أبو عركي البخيت(٤-٤)

أوسمة المقاومة _ دكتور فضل الله احمد عبدالله 

*الفنان ليس هدفه في الأساس أن يعبر عن حالته الوجدانية فحسب ، بل هو لسان حال الأشياء من حوله ، بيد أن هذا التعريف لا يعني بالضرورة أن الفن ملجأ يحتمي به الإنسان من السطوة ، والهيمنة ، أو الانسحاب من الحياة والاحتماء بالفن ، بقدر ما أن الفن لا يكون فناً ذا قيمة إلّا بقدرته على مواجهة السائد من القوالب المهيمنة والمستبدة .

*وعلى هذا الأساس لا يكون الفن الثوري هو أحد ألوان الفن أو أحد مشتقاته ، بل أن الفن بطبيعته ثوري والفنانون بطبيعتهم في ارتحال مستمر ، يبحثون عن خطط للإفلات وبهذا فهم دوماً الخارجون على سلطة الدولة وخارجون على سلطة الحزب ، فهم أكبر من كل تنظيم سائد ، أو ما هو كائن ، وكانوا محاربين كباراً وهاربين .

*أن معنى الرحيل والهروب الموضوع الأكثر سمواً للأدب – حسب لورانس – الرحيل والهروب اختراق الأفق والدخول في حياة أخرى .

*إن خط الهروب هو مغادرة إقليمية ، والبحث الدائم عن مواطن غير موجودة أو متحققة .

*وأن هذه الروح المقاومة الراحلة تتوارى في أغنيات أبو عركي البخيت وممارسته الإبداعية ، فهي منحوتة في كل مشتقات علاماته المنتجة 🙁 لمّا ، لا ترحال يحلك ،
لا البعاد يقدر يحلك ،
لا القرب يقدر يدوم
الكلام يصبح مفرّق
الدنيا تشبه لون بعاد
وأبقى أحوج ما أكون أنا لي حضورك ،
بالجد بدورك
فجأة يشع فيني نورك
والقاك نبتي من تراب السكه سديتي الأفق
لحاك حلمي الملّون بهومي
لمّا يومك بلقى يومي
وفصل همومك من همومي
نضحك من الواقع سوا
نحن القدرنا على التعب
حرقتنا ألسنة اللهب
ولسه ما سكين الدرب
يا صاحبة في الزمن الصعب )

*ذلك هو معنى من معاني الهروب والترحال عند أبو عركي البخيت ، إنتاج واقع جديد ، وإبداع حياة ، فالفن عنده نقدي :
( لا المراكب قادرة تكسح في النزيف
ولا نحن شايفين الفناره
وجاى تسأني الدباره
يا قلب ما فيش دباره )
*وينطلق أبو عركي البخيت يتناغم المنظور الرومانسي عنده بمنظورات التصور الصوفي مجسداً العلاقة العضوية بين الأنا والأنت ، التي تتجلى فيها صورة فيوضات العشق عن حدوده ، وتلتمع مستويات الفعل الروحي الذي يزيح المسافات :
( انت معايا في جواى
غرستك آهه من ثمار دمي
وبنيت منك جمال دنياي )
*ويسعى بغنائية شفيفة ، مظهراً مناجاة لا تنتهي بين الذات العاشقة والمعشوق :
( بستنشقك
وأكتم هواك جواى طول السنين
وتعيش فيني على الدوام
تتخللي الروح والمسامات
واتغطى بيك )
*الأغنية الرومانسية عند أبو عركي البخيت ، تبحث في الوجود الإنساني ، إنتقالاً من فضاء اللغة إلى حيز العلاماتية والإشارية التي تحيل اللغة نفسها إلى معاني تأسس قول آخر مستتر .
*فان المخيول والرمزي والنفساني هي أكثر عناصر التأثير التي اعتمد عليها أبو عركي البخيت في غنائياته قافزاً بالرومانسي الغزلي التقليدي إلى مدارج عالية المضامين المتكأة على قيم الثورية ومقاومة السائد السلبي في كل مستوياته .

*كما استطاع أبو عركي الموسيقار ، من اجتراح المنهجيات الموسيقية العلمية والتي احتلت أعلى المراتب عنده ، إذ أصبحت جزءاً من أسس الفكر الغنائي في أداءه المستند على النص اللغوي فأصبح المنجز الإبداعي كله نسق إشاري علامي للتعبير الصادق عن حالات نفسية شعورية ، أي عن حالات الإنسان الفكرية والعاطفية والإرادية صعوداً إلى تصوراته المخيولة والمرجوه .

*أن تلك الخاصية الإسلوبية هي التي ميزت جمالية الغناء عند أبوعركي البخيت بقصديته الواعية ، إذ أنه يتصف بالوعي الشديد ، وينصهر ذلك الوعي إرادياً في أسس وقواعد منتجه الإبداعي الغنائي أو في موضوعات أغنياته التي تميزت بأشراقيته الفنية .

*وذلك ما منحه ذلك الحضور الجماهيري ، المدرك لما يعنيه ، واعٍ بكل منطوقاته اللفظية ، ونغماته اللحنية وإيماءاته وإشارته العلاماتية التي يرسلها .