نقطة لا تُجزّئها فواصل ولا تُجزيها علامات

قصة 

 عزيزة صبان / المغرب

أيقظه ضجيج جلبة بالديار المجاورة؛ أصوات تستنجد وثانية تُعدد وثالثة تُندد ورابعة تُهدد وخامسة تُغرد وسادسة تُزغرد والباقي شخير. أطل من نوافذ شاشته بعين شبه مغمضة، مفزوعا تواريه ستائر المواقع، فهاله المنظر وإن لم يكن جديدا عليه، فالمشاهد نفسها تتكرر؛ شرف يُنتهك ودماء تُهرق وأرواح تُزهق ومنابر تُغلق وتاريخ يُحرق وشعب يُباد.

في تلك اللحظة رن هاتفه، إنه صديقه الإعلامي الكبير”عماد”، أول من أعلن الحداد على صفحات (الفايسبوك) تعزية ومواساة إثر الجريمة الكبرى، سليلة المذابح…

– أهلا عماد ، كيف حالك؟

– أهلا بك محمد، أين أنت يا صديق؟

– كنت منهكا فسرقني النوم في وقت مبكر، واستيقظت قبل قليل فقط على أصوات الأخبار المنبعثة من أجهزة الجيران. إنها مأساة حقيقية والكل يتفرج..

– صدقت أخي، حسبنا وحسبهم الله ونعم الوكيل. سأنتظر تنديدا منك في قصيدة مقبلة، هيا يا شاعر، أتحفنا!

– بكل تأكيد، فقلمي بندقيتي، والحدث ذو شجون ودماء.

– لا شك في ذلك، فحروفك تحمل هموم الأمة وآمالها بأبجدية هي لك دوما طيعة وتاريخك الباذخ يشهد. بالمناسبة، ما رأيك أن نلتقي هذا المساء في بيت الأستاذ “سعيد”؟ الرفاق متفقون على سهرة ثقافية سياسية جميلة على أنغام العود والناي…

– سهرة وأنغام؟ بالمناسبة؟ ماذا عن إعلانكم الحداد ودعواتكم إليه؟

– وما علاقة هذا بذاك أيها الشاعر الحساس؟ هي تدوينات وحوارات ورسائل باكية لا يتعدى حدادها حد الرقن أو البث.. والحياة تستمر رغم ما نكنه من بؤس للقضية!

بهت الذي وعى، ودوي الجملة الأخيرة يصم مسامعه، ومداركه تؤمن مسبحة للحسرات المرعدة، قبل أن تستعيده اللحظة ليرد على صديقه بصوت لا يخلو من أسف: “اعتذر منكم، لازلت مرهقا، بلغ سلامي إلى الرفاق”.

انصرف إلى مطبخه يعد فطوره مسترجعا حديث صديقه. ثم غير مستغرب، جلس على مكتبه مرتشفا قهوته بصفحات تهافتت على الخبر بحروف ساخطة شعرا ونثرا، وأخرى لها تصفق مستلذة كلاما منكها بتوابل النكبة، تشتهيه لكن لا تجيده! جاعلة من الحدث عيدا بشموع سوداء، جعلته لا يستطيع التمييز بين باك ومتباك. ثم بمداد يكاد يستشيط من يراعه غضبا، خط حروف الحلم العربي الأزلي وحزنه الأبدي وفجيعته العظمى وفضيحته الفصحى” فلسطين” بنقطة سوداء على صفحة بيضاء، لعلها تنجب فجرا ينهي الليل السرمدي. أو تتقاطر رصاصا يصيب الأزمة في مقتل.

أقبل عليها محملا بقوافي الرثاء معلنا الولاء للقضية، لعله ينثر الحروف حروبا ومذابح، دماء وأشلاء، دموعا وآهات، شعارات وأغنيات، على خاصرة قصيدة تتغزل بماض مات، مغرية ربيعا آتيا، بشطحات حاضر نازف، ينوح مدويا في وجه الأمنيات: “هيهات”!

أمسك الصفحة بين يديه، يقلب حروف “فلسطين” بين جنبيه، يلثمها حبا ويشمها عزة وكبرياء، يرددها بصوت أطفال الحجارة: “فلسطين! قصيدة أنت لا تسفح دماؤها بين السطور، مقال أنت لا تكتبه براكين خامدة خلف الصدور. قصة أنت قبل البداية وبعد النهاية، فأنت العنوان وكل الحكاية، وأنت نقطة لا تجزئها فواصل ولا تُجزيها علامات”.

شُل الحرف في حلقه، وتوقف الحبرعن نبضه، وعاد الحماس إلى غمده، فالصفحة سوداء لا تُكتب إلا بمداد من نور والنور أزور ران على جنباته الرمس. فأضحى مجرد حروف باردة الكبريت، لا تحرك في ساكن غير تصفيق لبلاغة النظم، بتعليقات لا تختلف كثيرا عن تلك التي تحظى بها قصائد صفراء فاقع مجونها تسر الناظرين، وكأن الدم يعزف ألحانا!!

وفي المساء خفتت الأصوات، واطفئت القناديل، وانشغل كل بمآربه، فطوى ورقته ودسها بين الكتب القديمة، وتمدد كطائر مقصوص الجناح على ما تبقى من ريشه، مستسلما للنوم مجددا بعد أن دقق جرس المنبه على موعد جعجعة أخرى.