(أصداء سودانية) مع د.معاوية محمد الحسن قيلي الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي (٢-٣)
_________
- الحرب على المدى البعيد يمكن أن تفتح بصائر المبدع نحو رؤى وأفكار كبيرة تتعلق بفداحة المصير الإنساني
_________ - عايشت بداية الحرب في الخرطوم وشهدت حمم الموت الحمراء تأتي من كافة الإتجاهات
_________ - أحس أن البلاد كلها قد إختطفها شيطان مارد وسيطرت عليها إرادة القتل والدمار
_________
حوار/فائزة إدريس
______
تلك المرأة إذن
سليلة الحزن والذكريات المريرة ذات الفؤاد الشفيف والذاكرةالمتصدعة، في الداخل وهي منكفئة حول المنضدة والبصر معلق في تضاعيف الفراغ، كأنهاستشعل من أنينها جذوة للصباح والأحلام. وحيدة وهي تخطو نحو الخمسين. صموتة دائماًويرى وجهها وهو يطفح بحريق نكبات و معارك كثيرة .
(بورتريه لإمرأة لاتنتظر أحدا)
كل عبارة من ذلك الوصف الدقيق المتدثر بالمعاني العميقة، لاتكن مغالاة إن قلت أنها قصة لوحدها(سليلة الحزن والذكريات المريرة)…. الخ، تجعل القارئ يحلق في خيالٍ خصب ويطلق العنان لأفكاره بعد ذلك…
فلا ريب أنّ من خطّ بنانه تلك القصة كاتب حاذق متمرس، ذو قلم سيال، إستحق بجدارة أن يفوز عن تلك المجموعة القصصية الماتعة (بورتريه لإمرأة لاتنتظر أحدا) بجائزة عبقري الرواية العربية الأديب الطيب صالح،
ألا وهو القاص والناقد دكتور معاوية محمد الحسن قيلي الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي عام ٢٠١٦، وهو أستاذ جامعي، رئيس قسم اللغة الإنجليزية بكلية الإمام الهادي، فضلاً عن ذلك عضو مؤسس لنادي القصة السوداني ورئيس لجنة التحكيم لجائزة الطيب صالح للقصة القصيرة للشباب في دورتها الثالثة عشر مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي ٢٠٢٣،له مجموعة من الأبحاث والدراسات المنشوره باللغة العرببة، إضافة للعديد من الترجمات الأدبية، كما لديه أيضاً بحوث ودراسات علمية منشورة باللغة الإنجليزية. أعماله الأدبية المنشورة مجموعة قصصية (بورتريه لإمرأة لاتنتظر أحدا)، وله أعمال أخرى قيد النشر، وهي:رواية زنيم الغبشاء ومجموعة قصصية بعنوان جنازة آخر الليل. فكان لنا معه هذا الحوار، فإلى مضابطه.
**كيف يخدم النقد الإبداع؟ وهل لغيابه عن الساحة الأدبية دور في رداءة الإبداع وكثرة الإصدارات؟
_________
*إذا كنت قد فهمت السؤال بشكل جيد فأنا أعتقد أنك تسألين عن الإنفجار الكبير في مجال الكتابة وإغراق الساحة الأدبية بكم هائل من الإصدارات الرديئة وبالذات في مجال السرديات دون وجود رافعة نقدية لكثير من تلك الأعمال، وهو الشئ الذي أدى بالطبع إلى إبتذال قيمة الأدب وقاد أيضاً إلى حدوث فوضى فنية عارمة، واعتقد أن كل هذا مرده إلى أمور كثيرة من بينها عملية إستسهال الكتابة وسط فئات كبيرة من الشباب وتحول الكتابة نفسها وعلى الأخص الكتابة السردية من مجرد ظاهرة أدبية ثقافية إلى ظاهرة إجتماعية جديدة تتعلق بمحاولات البعض الحثيثة خلق دائرة من الأضواء والشهرة والبحث عن نجومية على صفحات التواصل الإجتماعي وغيرها وهنا أعتقد أن النقد في هذه الحالة ليس بمقدوره أن يلاحق كل هذا الكم الهائل من المحاولات وأن يسلط عليها الضوء وقد أثر غياب النقد الرصين المبني على رؤية علمية بالطبع على ذائقة المتلقي، بل لم تعد هناك ثمة سلطة معرفية كبيرة للنقد في كثير من الأحيان كما لم تعد هناك سلطة تجيز الكاتب. يستطيع أي شخص حالياً أن يعبر عن نفسه بالصورة التي يراها وينشر ذلك على الملأ دون أن ترافق كتابته دراسات منهجية وهذه مسألة بالطبع تقودنا إلى سؤال حول ضرورات النقد وحضوره في الساحة الإبداعية وفق التصور القائم على أساس أن النقد يشكل كتابة إبتداعية تقوم على كتابة إبداعية، بمعنى أنها كتابة تقوم فوق كتابة أخرى، وأنا هنا بالمناسبة أتحفظ على هذا المفهوم وأجد أن النقد ليس دائماً كتابة رديفة للنصوص الإبداعية وتأتي لاحقة لها، بل هو حقل كتابي إبداعي مستقل يمتلك وسائله المعرفية الخاصة وأدواته الإبداعية المستقلة والتي تؤهله كي ينتقل من مجرد كتابة إبتداعية في المنطقة (ب) إلى كتابة إبداعية في المنطقة(أ) حسب تصور رولان بارت مثلاً.
** مامدى تأثير الحرب على الأدب السوداني عموماً في رأيك؟
_________
*أعتقد وبصورة جازمة أن الفنان دائماً ينبغي أن يكون في موقف مناهض للحرب مهما كانت دوافع الحرب ومنطلقاتها وبواعثها، وأنا هنا أتحدث من منطلق نظري، يتسق مع العقيدة الصحيحة للفن ومفاده أن الفنان الحقيقي ينحاز بالضرورة للحياة ضد إرادة الموت والهلاك وينحاز إلى القيم الجمالية بعيداً عن القبح وأعتقد أن الحرب وبلا أدنى شك تمثل القبح والبشاعة في أعلى تجسداتهما وبالطبع وكما ترين ياسيدتي الفاضلة. فإن للحرب تأثيرات سالبة على مجمل حركة الآداب والفنون من خلال عمليات التشرد والنزوح والمسغبة والجوع والهلاك التي يواجهها الفنان بالإضافة إلى توقف حركة النشر وإغلاق دور المسرح، هذا فضلاً عن القمع الذي يقع أثناء الحروب فيما يتعلق بحرية التعبير ولكن الحرب أيضاً وعلى المدى البعيد يمكن أن تفتح بصائر المبدع نحو رؤى وأفكار كبيرة تتعلق بفداحة المصير الإنساني في ظل الحرب ولذلك تجدين أعظم ماكتب في الأدب هي الكتابات التي تناولت ثيمة الحرب والتي عرفت لاحقاً بأدب الحرب ودونك على سبيل المثال كتابات أرنست همنغواي وكتابات الأدب الإسباني حول الحرب الأهلية الإسبانية.
** ومن ناحية خاصة ماهو تأثير النزوح والحرب في السودان على إبداعاتك الكتابية؟
_________
*كحال الملايين من أبناء شعبي مثلت الحرب لي ولأسرتي فاجعة كبيرة فقد إضطررت للنزوح من منطقة إلى أخرى بحثاً عن الأمان وقدعايشت بداية الحرب في الخرطوم وشهدت قصف المدافع والطائرات وحمم الموت الحمراء تأتي من كافة الإتجاهات.. لقد كان شيئاً بشعاً لايمكن وصفه وأنا هنا ليس بوسعي غير أن أستعير عبارة كافكا الشهيرة في وصف المأسأة (ياإلهي! كأنما السموات قد حشرت في حلوقنا). أقضي أيام النزوح بعيداً عن الخرطوم في مدينة ريفية نائية، الحياة فيها مملة ورتيبة للغاية – أحاول هنا في هذه البقاع أن أتدبر بلاجدوى سبل كسب العيش القاسية، بعد أن فقدت مصدر رزقي الوحيد كأستاذ جامعي.. الآن أحس فعلاً أن البلاد كلها قد إختطفها شيطان مارد وسيطرت عليها إرادة القتل والدمار ومع ذلك كله فإنني مأأنفك أحاول أن أنغمس من وقت لآخر في سيل من الأحلام وأحاول أن أكتب ماوسعني الأمر، بل أنني أشعر صادقاً أن ليس ثمةصلة كبيرة تربطني بالعالم سوى الكتابة وحدها.