قصة نزوح ملهمة..

ترصدها_ سهير محمد عبد الله_
بورتسودان
ظروف قاسية فرضتها الحرب في السودان على المواطن كان من بينها موجات النزوح الهائلة التي تزايدت تزايدا متسارعا ومخيفا بفضل اتساع دائرة الصراع في مناطق عديدة منه، حتى بات الكثيرون يخشون من أن تكررهم تجربة النزوح التي تسرق من الإنسان إحساسه بما حوله حتى يصل مراحلها الأخيرة ببقايا مشاعر،، فالنزوح ليس نزهة حتى يرغب الإنسان القيام بها، لكنه أعتى مايمكن أن يجبر عليه المرء، وفي هذه المساحة التي خصصناها و فردناها لتجربة إنسانية جعلت من النزوح ودور الإيواء مكانا أكثر صلاحية للعيش فيه والتعايش معه..
الممثلة القديرة مواهب الماحي التي تتمتع بمسيرة فنية ملهمة وحافلة في مجال الفنون خصوصاً مع الأطفال،، شاركت كممثلة درامية وعملت في مسرح عرائس الأطفال،، إضافة إلى تدريب الأطفال على مختلف أنواع الفنون ،،هي ناشطة في مجال المرأة والطفل و مؤسسة لفرقة (كوراسا الفنية)..خلال رحلة نزوحها من أم درمان ساهمت بجهود جلية في العديد من دور الإيواء فقد قامت بمبادرات إنسانية لاحتضان العائلات النازحة، كان من بينها مبادرة فريدة لتخفيف معاناة الأطفال من خلال إقامة عروض مسرح العرائس وتشجيعهم على الرسم والتلوين في مراكز الإيواء، وتوظيفها كوسيلة لتخفيف المعاناة والقلق لديهم واستطاعت توجيه الطاقة السلبية نحو نشاط إيجابي .. عمل على تعزيز صحتهم النفسية
قالت (مواهب) حول ذلك في بداية نزوحنا من أم درمان إلى مدينة ود مدني تناوشتنا المخاوف وأرعبتنا فكرة النزوح وهي أولى مراحل الصدمة فقد أدخلتنا الحرب في تحديات كبيرة.. بعضها كان بيننا وبين أنفسنا .. وعائلاتنا الصغيرة والكبيرة والممتدة، وحتى مع المجتمع من حولنا ولم يخطر لتوقعاتنا أن الحرب سيطول أمدها إلى هذا الحد.. كنا نحلم أن تنتهي الحرب ونرجع إلى مناطقنا ومنازلنا التي افتقدناها كثيرا و نعود لعروضنا المسرحية (ونشرب قهوتنا مع خميسه في المسرح) لكنها الحرب عندما تشتعل فلا أحد يمكنه التكهن بأمدها الا الله ..وربنا يصلح الحال..
فور سماعنا اعلان المبادرة الجميلة التي قام بها أخوتنا من الدراميين بمدينة ود مدني بدعوة منهم لجميع الدراميين والتشكيليين والموسيقيين بتوفير سكن للاقامة فيه، عملوا على تجهيز المدرسة حتى اصبحت مكانا مناسب، استوعبنا وعائلاتنا لاحقا وكنا نتشارك السكن مع عائلات أخرى غير الدراميين فأصبح بفضل الله لنا سكنا وعنوان..
شكر مستحق
من لايشكر الناس لايشكر الله ولعل أهل حي المطار بمدينة ود مدني كانوا أنموذجا للتكافل فضربوا أروع قصص التراحم وهم يعملون بصورة راتبة على توفير وجبات الفطور والغداء وغيرها من مستلزمات النازحين لنا بالايواء،، ويحضرني دائما ما قام به الفنان الأصيل (كوجاك) من اتصالات مع ديوان الزكاة أثمرت بتوفير المواد التموينية التي أعانتنا بعد ذلك على استمرار مااسميناه بالمطبخ،، وبحمد الله لم نشهد غربة في الإيواء بمدينة ودمدني فقد كنا جميعنا نتنقل في (الحيشان ) بأم درمان حتى نهاية اليوم وهاهو النزوح قد جمعنا وعائلاتنا مرة أخرى في هذا.المكان،، وبقينا على ذلك أيام أحسسنا فيها بالطمأنينة والاستقرار النسبي فجميعنا كانت قلوبهم معلقة فيمن تركناهم خلفنا من أبناء وأزواج وعائلات أخرى لازالوا عالقين في أماكن لاتهدأ ولا تتوقف فيها المعارك أبدا..
بعدها أيقنا أن الوقت لا يصلح للاستكانة ولا الاسترخاء..وعلى رقابنا كان يقع عاتق اعالة أسرنا وذوينا وأهلنا ومجتمعنا الكبير..ولم ندع الوقت ينفذ منا فسرعان ماقمنا بترتيب أولوياتنا .. وشرعنا فور ذلك للانخراط في العمل الدرامي والموسيقي والتشكيلي فكان الإيواء الذي نقيم فيه أول مكان شهد تنفيذ عروضنا..التي كانت بمثابة كبسولات درامية ومساحات للألوان، والموسيقى، كوسيلة للتعبير جمعت بين الواقع الصعب والسخرية من التحديات اليومية التي نعيشها بسبب الحرب، بعدها قرر الفنانون بجميع انتماءاتهم تجسيد تجاربهم ومعاناتهم عبر عروض مسرحية وورش جوالة تجوب دور الإيواءات في المدينة كي يقدموا للجمهور مشاهد تعكس واقعهم في قوالب درامية خفيفة متضمنة رسائل قوية.
العلاج بالفن
سندخل عبر بوابة الإبداع للدرامية المبدعة مواهب الماحي لنسلط الضوء على مجهوداتها تجاه قضايا الطفل والمرأة وهي بوابة طرقها الكثيرون من من أرادوا أن يبددوا مخاوفهم ويمحون ما عالقها من ذكريات الصدمات و الفقدان،، فسخرت كل إمكاناتها الفنية لدعم النازحين بدور الإيواء.. ولعل إعادة خلق حياة طبيعية لتلك العائلات من حيث الغذاء والمأوى والاحتياجات العاطفية والعقلية رغم الغياب الحاد لها لم يكن بالأمر الهين.. ولعل المبادرة التي عملت بها ،،مواهب،، لتوفير أقل مايمكن أن يتوفر من تلك الاحتياجات لديهم ، مستهدفة بذلك المرأة والطفل ،لأنهما الأكثر تأثيرا بالخدمات نتيجة الأحداث،، فعرفت كيف تستغل قدراتها في تنمية أسرتها ومجتمعها،، لم تيأس ولم تتأفف بل تابعت بأناة وخلقت الفرص لتطوير إمكانياتها.. فكانت في الموعد نموذجا للمرأة خارج منطقة الراحة التي تعودنا جميعنا عليها.. لذلك رنت مبادراتها إلى إعادة التوازن النفسي للمرأة والطفل عبر عقد الورش و اللقاءات الفنية الترفيهية للمستفيدين في مراكز النزوج للتخفيف من وطأة الشتات الأسري التي لاتزال معظم العائلات تعاني منها بسبب الحرب.
القوة الناعمة
لم تكن أدوارنا مقتصرة على الدراما فقط كنا نقوم بمبادرات في الميديا لتغطية الحاجة والنقص في ما يلزم احتياجات النازحين بفضل تشبيكنا مع بعض المنظمات الإنسانية.. و كنا نشعر أن أدوارنا في المجتمع رسالية من الدرجة الأولى.. لذا توجب علينا أن نراعي ذلك في أثناء تواجدنا في الإيواءات،، مضيفة: مثلما هناك جندي يدافع عن وطنه وله وسيلته وأدواته في ذلك..نحن أيضا كدراميين لنا سلاح الكلمة والأداء وهي بمثابة القوة الناعمة التي يمكننا استخدامها لندافع بها عن كل ماتتعرض له أوطاننا ومجتمعاتنا من إستهداف،، وكإمتداد لأنشطتنا التي نقوم بها قبل اندلاع الحرب والتي قمنا بتفعيلها مجددا وهي إننا كنا نعمل ضمن قروب الصداقة السودانية الفنزويلية و كان يقوم على تبادل الثقافات بين البلدين كانت مشاركاتنا حاضرة في احتفالات الجالية الرسمية بالسفارة نتشارك معهم أغنياتهم ونشيدهم الوطني وكان الدكتور كمال مشرفا على تدريب الآلة والصوت لأعضاء المجموعة التي تأسست في العام 2014 ،ولم تتوقف أنشطتنا حتى اندلاع الحرب ،،كما عملنا مع منظمة اليونسيف في أعمال وأنشطة مختلفة من ضمنها كانت المساحات الصديقة وبرنامج الحمايات، فكان الإرشاد والتشجيع الذي نقوم به للأطفال عبر مسرح العرائس بمشاركة كوكبة من المبدعين من بينهم ياسر وربيع مزدلفة ووليد حيث كنا نذهب إلى الايواءات الأخرى المجاورة لنا والبعيدة مشيا على أقدامنا ونقطع مسافات طويلة لتقديم العروض وكان زمن العرض ساعتين، يتخلله زاوية للرسم توزع فيها دفاتر وألوان الرسم للأطفال وقد لاحظنا في تلك الفترة أن معظم رسومات الأطفال كانت عبارة عن كلاشات وطائرات وعربات قتالية لعل الأطفال قد أسقطوا كل مخاوفهم على رسوماتهم.. كما لفت انتباهنا أيضا أثناء ذهابنا للعروض التي كنا نقوم بها لبعض الإيواءات أن بعض الأمهات كن يقمن بتعنيف أطفالهن دون أسباب موضوعية وبحدة زائدة مما دعانا للاستعانة بالدكتور معاذ شرفي -جامعة الجزيرة للدعم النفسي والإسناد، كانت ندواته مهتمة بالقضايا والمشكلات التي كنا نتابعها في الإيواءات أثناء زيارتنا لها وعن كيفية تجاوز تلك المرحلة الحرجة التي نمر بها جميعا وعن كيفية التعايش ودعم الآخر، كان شرفي مصاحب لنا في كل الورش الجوالة التي كنا نقوم بها ومكملا لأدوارنا في التوعية وما نقوم به من معالجات درامية.. فقد كنا نقف جنبا إلى جنب مع كل مامن شأنه داعم ومحفز للنازحين
ركن خاص
أما عن المراة فقد كانت أيضا لدينا منصة إبداعية للتعبيرعن تجاربهن وآرائهن وتشجعهن على الحديث عن قضايا يصعب مناقشتها بطرق تقليدية في جلسة اسميتها (قعدة قهوه) مع النساء في دور الإيواء كانت بمثابة الفضفضة النصف شهرية
قمت بزيارة عدد كبير من الإيواءات نفذنا خلالها عدد من الأعمال بعضها مع اليونسيف وبعضها مع المساحات الصديقة بالتعاون مع جامعة الجزيرة أيضا.
عندما خرجنا من أم درمان مع إستمرار شدة الاشتباكات أنا وابنائي لم نأخذ معنا سوى بعض الأمتعة البسيطة.. لكنا حرصنا على أخذ عرائسنا وأزيائنا التي استطعنا بعد ذلك تفعيلها لتصبح بعد ذلك خير معين لنا طوال فترة نزوحنا..
وعلى المستوى الشخصي أضاف لنا النزوح ومشاركة المجتمعات معاناتها وهمومها الكثير لي ولبناتي اللائي يعملن في الفرقة الاستعراضية ومسرح العرائس، بأنهن صرن قويات و أصبحن يتمتعن بمسؤلية كبيرة ، وقدرة فائقة على الاعتماد على أنفسهن رغم صغر سنهن ،وقدتمثل تأثيرهن على الأطفال ايجابا من خلال العروض وبراعة الأداء والمحتوى الهادف الذي كنا نقوم بعرضه..
بعد انتقال الصراع المسلح إلى الجزيرة كان علينا النزوح مرة أخرى إلى مكان آمن قصدنا مدينة سنار، ثم انتقلنا إلى مدينة كسلا التي لانزال نقيم فيها حتى الآن، واستقبلتنا كسلا وسرعان ماتم اندماجنا في مجتمعها وهي من المدن التي عرفت الإيواء والتعامل مع احتياجاته بطريقة منظمة، فهم أهل معرفة بايواءات النازحين واللاجئين من قبل الحرب فأحسنوا معاملتنا كوافدين وكانت الايواءات معظمها في المدارس، وكان ذلك أثناء عطلة المدارس ،، تواصلت أعمالنا في الورش المسرحية و التوعوية و المجتمعية المختلفة، بعد ذلك انخرطت للعمل مع الورش التي يقوم بها المجلس الأعلى للثقافة والفنون برعاية عبدالله شمو قمنا بتنفيذ برامج عديدهة للنازحين في الأعياد من ضمنها (برنامج العيد غير) .. ولقينا تجاوبا كبيرا من إنسان كسلا ومن النازحين.. عملت مع المبدعين طارق الأمين وربيع طه وكوكبة من المبدعين ..
المرأة تاج
وعن أدوارها قالت مواهب: غالبا ما تتحمل المرأة أوزار الحروب والنزاعات المسلحة فيتقلص بذلك دورها الاجتماعي وتتضاءل خياراتها وفرصها كلما طال أمد النزاع .. فتجد المرأة نفسها في وضع اقتصادي منهار يفرض عليها اللجوء إلى خيارات أحلاها مر، مثل العمل ببعض المهن التي لم تعتد العمل بها من قبل والتي قد تعرض حياتها للخطر، لا سيما في مجتمعات لا زالت تؤمن بأن دور المرأة يقتصر على توليها المهام المنزلية،، فهي تاج يزين المجتمع وكنت شاهدة على كل الأدوار العظيمة التي كن يقمن بها النساء والآنسات في مراكز الايواء ،،وقد أدهشتني مشاهد الكفاح والإلتزام تجاه مسؤلياتهن عن طريق العمل الجاد والمتواصل،، لم تقعدهن المساعدات ولا دعم المنظمات عن التقاعس عن أعمالهن ليل نهار في (( عواسة الكسرة)) وعمل المعجنات وكنت شاهدة عيان على طالبات الطب المقبلات على الامتياز وهن يعملن في المعجنات والمعلمات والمهندسات اللائي اجبرتهم الحرب على النزوح والإقامة في مراكز الايواء وهن ينظمن البازارات الشهرية المتخصصة في الصناعات الصغيرة كصناعة الصابون و العطور السودانية والأعمال اليدوية والفلكلور و المشروعات الصغيرة.. وحيث أقيم أنا وعائلتي الصغيرة هنا في مركز الإيواء- معسكر الكرامة -بمصنع البصل بكسلا ،،معظم النساء كادحات ومثابرات بعضهن يقمن بعمل ((الزلابية الصباحية)) والشاي (والطعمية) لسندويشات المدارس وغيرها من الأعمال التي تدر لهن دخلا يعينهن على الإيقاء بلوازمهن واحتياجات عائلاتهن منذ الفجر وحتى الغسق دون كلل أو ملل.