قراءة في علاماتيّة أغنيات أبو عركي البخيت(٣-٤)

أوسمة المقاومة : – دكتور فضل الله احمد عبدالله

*تأسست معاني المقاومة عند أبوعركي ، من داخل أغنيات عالية الرومانسية في مستوياتها الظاهرة ، فأنجب أغنيات واسعة الفضاءات باسم العاشق والمعشوق ، متضمناً الوطن والناس وآهاتهم وصور معاناتهم جاعلاً الرومانسية منهجاً أدائي إجرائي ، وكنفا يتحرك من داخله لإشباع رغبته في أن يكون ناطقاً بآمال شعبه الذي وحشته الطمأنينة وسكينة النفوس .

*ففتح لذلك المعنى عناصرها المتجانسة القابلة للتكاثر ، التي تحيل وتداخل فيها معاني مرارة الفقد والتلذذ بأمنيات اللقاء :
( واحشني يالخليت ملامحك في حياتي
واحشني .. مراسيك جوه ذاتي ،
إلّا باكر لما ترجع ، أنا بحكي ليك عن الحصل ،وعن بًعد المسافة وقربها ،
ولما يفارق زول عيون غاليات عليهو كتير خلاص ويحبها ،والله أحكام يا قدر
والله أحكام يا مسافة ويا سفر )

*وحدة الكلمات ، وشجن اللحن الموسيقي الحاذق ، يبرزان البيان الرومانسي الوقور المهيب ، بيد أن البعد المستتر هو حضور الوطن كما يشتبه أو ما ينبغي أن يكون عليه .
( وأنت لما تسيبني وتسافر
خت في بالك ،إنو دنياي في مدارك
وجد لفافات الصبر دخلتها
وكل المقاطع في غناي طوعتها .
وغريبة غنت ..
فرحة .. لا.. لا ..
غربة .. لا .. لا ..
تقصد شنو ما عرفتها !
تجربة ، خطيرة جد واجتزتها
ولسه واحشني )

*قراءة الأغنية بكل تراكيبها قراءة ( أبستمولوجية) يجد الناقد أن أبو عركي البخيت هدف إلى تحرير النص الشعري من قيوده من خلال الأداء بوصفه مفتاح المنظومة العلاماتية ، أو الإشارية التي تحولت عبر التجربة الجمالية من خلال تغليب المساحات الصوتية في إرتفاع عالٍ لإعطاء الإشارة كامل حريتها في إحداث الأثر وعليه تأتي الأغنية – واحشني – متعددة البراحات والحوارات شاهقة التخوم ، لا تتمثل في موضوعية غير الشوق للفردوس المفقود ، أو صورة الوطن كما يأمله ويرجوه .

*وذلك في تقديري يماثل معنى الصورة الشعرية النموذجية التي صورها (هيدغر) في كلمات معبرة تقول :
( الشعراء أوجه مقدسة ، تحفظ فيها خمرة الحياة ، وروح الأبطال )، وفي أخرى يلغي أبو عركي البخيت المسافة بين ذاته وذات المحبوبة ، فهو منها وهي منه ، وتحيلنا إلى ذلك المعنى إشارات صوتية صادرة من آله الكرالنيت انغاماً تحايث علاماتيتها العميقة نص الأغنية في مستوى سردي حكائي ، وفقا لأسلوبية الراوي .
( عن حبيبتي أنا باحكي ليكم
وظل ضفائره ملتقانا
شدو أوتار الضلوع
أنا بحكي ليكم عن حنانا )

*فعمل أبو عركي البخيت ، بإحساسه العميق وجوانيته المرهفة إلى توسيع معنى النص الشعري في توسل شفيق إلى حد التوحد بينه والجمهور في تلقيه التفاعلي ، في علاقة تبادلية تظهره كأنه الذات العاشقة والذات المعشوقة :
( مره غنت عن هوانا
فرحت كل الحزانى
ومره نادت في مدينة
الحمامات الحزينة قامت أدته برتقانه
لما طارت في الفضاء رددت أنغام رضانا
وكانت أول مره في عمر المدينة أنو
نامت وما حزينة
تحيا ، تحيا محبوتي الحنينه )

*ارتكزت الأغنية في منظومتها العلاماتية على معادلة الحركة والسكون داخل قيمتها الجمالية، فأحدثت سياقاً موضوعياً منتهياُ إلى ديمومة مفتوحة للمعاني في تصور رومانسي ، لا يبتعد أصلاً عن أبو عركي البخيت ( الحالة المقاومة ) كمؤول أساس في المنجز الإبداعي .

*وهذا المثال تجسد عندي كمتأمل ناقد في حفل أبو عركي البخيت الذي أقامه لصالح جمعية المعوقين مساء يوم الجمعة 25 يناير 2013م في المسرح القومي بأم درمان ، في حشد جماهيري لا نظير له ولا مثال في العهد القريب ، والذي ضاق به المكان ، ضجت به حتي ما حوله من مساحات ظاهرة غرائبية المشهد تحتاج نفسها إلى دراسة خاصة أو مقال غير هذا .

*وأغنية – عن حبيتي بقول لكم – كانت أيقونة ذلك المساء ، وإحالتني تلك الحالة ، إلى معنى حاله الصوفي في قوله :
( صلِيتً من حبّها نارين : واحدة
جوف الفؤاد وأخرى بين أحشائي
وقد منعتً لساني أن يبوح به
فما يعبّر عنه غير إيماني
يا ويح أهلي ، أبلى بين أعينهم
على الفراش ولا يدرون ما دائي
لو كان زهدًك في الدنيا كزهدك في
وصلي مَشَيْتَ بلا شكٍ على الماء )

*من المعلوم ، كما أشرنا في معنى من معاني فرضياتنا ، أن الفنان يمنح التعبير لمن لا يملك القدرة على التعبير ، وينطق بلسان ، من لم يتمكن من النطق .