
في الطيف أو في الصحيان
د. عبدالله محي الدين الجنايتي
*هذه الأبيات تعبر عن حالة نفسية مؤلمة للشاعر عمر البنا وهو أحد دهاقنة الشعر السوداني، فإذا ذكر امريء القيس عند شعر العرب القديم أو ذكر شعراء العباسيين أو ذكر شعراء الأندلس .. فإننا نذكر عمر البنا والعبادي والخليل وصالح عبدالسيد وتلك القائمة الرائعة التي خلدت جمال الشعر السوداني الأصيل.
*فالأبيات أدناه تتميز بأسلوب بلاغي قوي.. ولعلي لم أفلح في عرض وجهة نظري في جزء منها أخذ عقلي وهام به .. لكنني أجتهدت إجتهاد طفل يحاول فهم جمرة ملقاة أمامه على أرض يحبو عليها
, في الطيف أو في الصحيان زورني
وتقول الأبيات:
أنا ساهر ونـوم عينـي حرمـان
وإنتَ بين أترابك في نعيم وأمـان
النحول علي جسمي يا حبيبي بيان
وإنتَ جسمك نامي وبالنعيم طربان
غمرني شعور وأنا أردد هذه الأبيات لعقل ذواق ومستبد ….وأنا في حضوره ..كجندي روماني يمتشق رمحه .. وينصت في إصغاء يبهره جمال أمبراطورته.
لكنني أتمتم بمعانٍ تتوارد إلى عقلي كأطياف رؤياه.
*فهل كان الشاعر مثلي يظهر حالة من الحزن الشديد والوحدة، فهو (ساهر) بينما حبيبه (بين أقرانه في نعيم وأمان)؟.
*إن هذا التضاد يبرز معاناة الشاعر وإنعزاله عن الفرح والراحة التي يتمتع بها حبيبه.
*ويعتريه الشعور بالغيرة والحسرة على حبيبه الذي ينعم بالراحة والسرور بينما هو يعاني ويتألم … فكلمة (حرمــان) تعكس هذا الشعور بقوة.
*العشق يصيب العاشق بالنحول فهل النحول الذي أصاب شاعرنا هو تعبير رمزي عن ضعفه النفسي والجسدي بسبب الحزن والفراق أم الشوق.
*إن شاعرنا يقول النحول على جسمي بيان الأمر الذي يدل على وضوح معاناته الجسدية نتيجة معاناته النفسية.
*ولنقف قليلاً نتأمل ..التناقض الصارخ بين حالة الشاعر وحالة حبيبته، فهذا التناقض يزيد من عمق الألم النفسي الذي يعانيه.
*وإن تأملنا اللغة فهي بسيطة وواضحة، لكنها تحمل في طياتها دلالة عميقة على المشاعر المكبوتة
فإستخدام كلمات مثل (ساهر)، (حرمــان)، (نعيم)، (طربان) يعزز التعبير عن التناقض في المشاعر.
*وقد أستطاع الشاعر رسم صورة شعرية أبرزتها الأبيات بوضوح حيث نرى الشاعر وهو وحيد ومنهك، بينما حبيبه مسترخٍ في نعيم.
*هذه الصورة تقوى بإستخدام التضاد بين (ساهر) و(نوم)، و(نحول) و (نامي).
*ونرى الشاعر يتبع بناءً شعرياً متوازناً، حيث تتشابه الأبيات في بنائها اللفظي والنحوي، مما يعطي للشعر إيقاعاً متناسقاً يُركز على معنى التناقض والألم.
*وتتجلى الرمزية هنا حيث النحول رمز للحزن والضعف النفسي والجسدي، والنوم رمز للراحة والسكينة والطمأنينة، التي يفتقر إليها الشاعر.
*شكراً أبونا عمر البنا .. فقد أمتعت أرواحنا في ليل جميل زفر نسائمه بين القاهرة وشاطئ بحر القلزم الشرقي .. يكاد يأخذ الأرواح.
*ولو تأملنا بعمق نرى أن التضاد يُعدّ من أهم الأساليب البلاغية المستخدمة في الأبيات التضاد بين (ساهر) و(نوم)، و(حرمــان) و(نعيم)، و(نحول) و(نامي) يبرز بشكل قوي التناقض بين حالة الشاعر وحالة حبيبه.
*ويُمكن إعتبار النحول علي جسمي بيان تشبيهاً ضمنياً، حيث يُشبه النحول ببيان يُظهِرُ معاناة الشاعر.
*بإختصار، الأبيات تعبر عن حالة نفسية عميقة من الحزن والوحدة والغيرة، مُعبرة بلغة شعرية بسيطة لكنها قوية في تأثيرها، وتعتمد على الأساليب البلاغية كالتضاد والاستعارة للتعبير عن المشاعر بشكل فعال.
*تعالوا نقرأ القصيدة كاملة ونحن نسبح بين كلماتها:
في الطيف أو في الصحيان زورني
ياحبيبي أنا عيان
مالو لـو فـي بعـض الأحيـان
تسمح لـي صحـوا أراك عيـان
تاخذ ياحبيبي عـن حالـي بيـان
عسي تبقي قلوبنا في الغرام سيـان
يا لفريد في حسنك وبهجة أمدرمان
لي من شوفتك يا حبيبـي زمـان
أنا ساهر ونـوم عينـي حرمـان
وانت بين أترابك في نعيم وأمـان
النحول علي جسمي يا حبيبي بيان
وإنت جسمك نامي وبالنعيم طربان
لو رآك الناسك المـن الله جبـان
بيك يفتن ويصبح بالغـرام تعبـان
قبل حسنك قط مارأيـت إنسـان
فاق العسجد لمعة والحريـر لمسـان
كيف يحصر وصفك ياحبيبي لسان
والبان إتعلم من قامتـك الميسـان
مالـدرر لثنـاك مابنـت الحـان
للمـاك وإيـه نفحـة الريـحـان
إنت حسنك كامل لكـن لمحـان
خدك قاسـي وقلبـك ماحـان
*كم سعدت وأنا أسمعها من البلابل والأستاذ بشير عباس يعزف .. والتغني يفوق الخيال
*كم أسعدتمونا أساتذتنا …عمر البنا ورفاق جيله.